الاقتصادُ الوطني وتجاوزُ الأزمة

 

 

 

 

 

الاقتصادُ الوطني وتجاوزُ الأزمة

¨  د. أحمد إبريهي علي 

من بين أسباب الإلتباس في تناول المشكلة الاقتصادية اعتياد النظر إلى الصادرات النفطية بأنها إيرادات في مقابل الإنفاق الحكومي، لكن الأساس الذي يتعين الانطلاق منه هو ان تلك الصادرات مورد للنقد الأجنبي. والأخير تنحصر وظيفته في تمويل المستوردات والمدفوعات الخارجية الأخرى للحكومة والقطاع الخاص. ولذا فهي، أي صادرات النفط،  متعلقة بالميزان الخارجي للاقتصاد، فإن تجاوزت في حجمها قيمة المستوردات من السلع والخدمات واستثمارات القطاع الخاص في الخارج،  يتراكم الباقي منها في احتياطيات البنك المركزي، وهي ذهب  وودائع، استثمارات مالية، في الخارج وعملات أجنبية في خزائنه. وعند انخفاض  قيمة صادرات النفط عن مجموع طلب الحكومة والقطاع الخاص على النقد  الأجنبي فهذا هو معنى العجز في ميزان المدفوعات الخارجية والذي يسدد تلقائيا من احتياطيات البنك المركزي عندما لا يقترض العراق من الخارج. وايضا يفهم  الاقتراض من الخارج،  في أروقة الادارة الاقتصادية، بأنه تمويل للإنفاق الحكومي قصرّ عنه المورد النفطي، في حين ان الوظيفة الاقتصادية الفعلية لذلك المبلغ المقترض سداد عجز في ميزان المدفوعات الخارجية. وذلك بغض النظر عن الدوافع وكيف يفكر متخذ القرار وبماذا يهتم عند طلبه الاقتراض من الخارج،لأن نظام الاقتصاد يعمل بقوانينه. وعندما لا يوجد هذا العجز  سوف يضاف المبلغ المقترض تلقائياً إلى احتياطيات البنك المركزي.  وفي الواقع لا تستخدم الموازنة العامة  من النقد الأجنبي للمورد النفطي سوى أقيام مستوردات الحكومة ومدفوعات التزاماتها الخارجية الأخرى، والباقي يحوّل إلى البنك المركزي لقاء دنانير عراقية.  ومع أزمة انخفاض سعر النفط  بقي ذلك الالتباس يصرف الأذهان عن مواجهة المشكلة، وهي بمنتهى البساطة ان الاقتصاد العراقي اصبح مع مورد اقل من النقد الأجنبي لتمويل المدفوعات الخارجية فكيف يتدبر الأمر، وليس ما يقال حول كيف تدفع الحكومة رواتب الموظفين؟  صحيح ان الإنفاق الحكومي لا بد من موازنته  بإيرادات، وصادرات النفط هي من تلك الايرادات، لكن مقاربة الاقتصاد من هذه الزاوية تصيب  إدارة الأزمة  بمقتل.  ان تمويه  الطبيعة الجوهرية للمورد النفطي  ليست بلا ضرر، ولا نعرف سر هذه الممانعة المتأصلة  للتمييز بين مقبوضات ومدفوعات الحكومة بالنقد الأجنبي ومقبوضاتها ومدفوعاتها بالدينار العراقي. إن هذا التمييز هو الذي يكشف  المشكلة ويساعد على حلها بأقل الخسائر، ويلقي المزيد من الضوء على حقيقة الاقتصاد النفطي  الذي يراد تنويعه  منذ عهد مجلس الأعمار وحتى يومنا هذا. ولكن عبر الاحتفاء بوجهات نظر وثقافة لا تسمح بتقديم إجابة دقيقة وأصيلة عن التساؤل لماذا لم تنجح تلك الستراتيجيات والخطط في التقدم بخطوات بسيطة في التنويع.
 
الذي ايضا، لم يكن يفهم بوضوح تام بأنه تنويع موارد العملة الأجنبية عبر خلق انشطة إنتاجية قادرة على التنافس الدولي وبخلاف ذلك يقود الجهد ” التنموي” نحو المزيد من الاعتماد على النفط  وتعميق اسباب الخطر في بنية الاقتصاد. والدليل على استمرار نفوذ المقاربات القديمة يأنس الكثير من المهتمين في الشأن العام لأحاديث مفتوحة عن أمنيات النهضة الزراعية والصناعية التي يتولاها القطاع الخاص لتعويض نقص المورد النفطي . ومن دون الالتفات حتى إلى الاختلاف بين اهداف الأمد البعيد وما تسمح به إمكانات وفرص هذا العام 2016 والفترة القريبة القادمة.
لكي نعوِّض نقص المورد النفطي بمقدار 50 مليار دولار نحتاج بناء طاقات إنتاجية تولّد من القيمة  المضافة ما يتناسب مع تلك القدرة، واضعاف هذه القيمة المضافة من رؤوس الأموال  في استثمارات مضمونة الجدوى وبمعيار التنافس الدولي ايضا. ولهذا ، يفضل الالتفات جيدا إلى معالجة المشكلة الحالية بالوسائل الممكنة  للحفاظ على الاقتصاد متماسكا : نقتصد بالنقد الأجنبي قدر الإمكان ونمول الإنفاق الداخلي بقروض تدبر بكيفيات معروفة عبر التنسيق بين البنك المركزي والمصارف. ومن الضروري عدم السماح لإضاعة فرصة التركيز على مهمات الإدارة المالية ومتعلقاتها المصرفية  في الأمد القصير والتي تحتاج إلى عمل متخصص وترصين. آخذين بالاعتبار،وكما تقدم، عدم تمكن قطاع الأعمال الخاص من رفد الاقتصاد بنقد اجنبي من صادرات زراعية وصناعية، او تعويض المستوردات على نحو يعتد به في إدارة الاقتصاد،كما ان الاستثمار الأجنبي لا يعول عليه، وذلك لجملة اسباب مبينة في مكانها.وطالما ان مستوى الإنفاق الحكومي  منخفض ، في واقع الحال،  سيكون الطلب الكلي منخفضا ايضا ولا مجال للحديث عن التضخم ، قدر تعلق الأمر بالإنفاق الحكومي.   ولذا لا يُخشى من الاقتراض الداخلي بغض النظر عن المصدر ما دام الاقتصاد لم يصطدم بقيد النقد الأجنبي. القاعدة بسيطة ، عندما يرتفع سعر النفط نقيد الانفاق الحكومي بحد الطاقة الإنتاجية من السلع والخدمات المحلية لنتحاشى الضغوط التضخمية. لكن عندما ينخفض سعر النفط  نهتم بوفرة النقد الأجنبي ونحاول إدامة أعلى مستوى ممكن للإنفاق الحكومي لنجنب الاقتصاد المزيد من البطالة
في المدة القريبة القادمة حتى عام 2018 يمكن للعراق الاكتفاء بنقد اجنبي في نطاق لا يتجاوز 75 مليار دولار في السنة بالمتوسط ويعمل الاقتصاد على نحو مُرضٍ، و يحافظ في الوقت نفسه على مستوى مقبول من الإنجاز في مشاريع الاستثمار الحكومي الملتزم بها والضرورية التي لم تدرج في الموازنة. ويتوقف النجاح على  ضبط التصرف باحتياطيات وموارد النقد الأجنبي بالحساب الصحيح، وبمنتهى الدقة، ويكون هذا الضبط بجميع متعلقاته الفنية هو المحور الأساس للإدارة الاقتصادية واهتمام من تستشيرهم الدولة في المرحلة المقبلة. وتتوفر تلك المقادير عندما يصل سعر النفط العراقي بالمتوسط هذا العام 35 دولاراً للبرميل ، و أن يتجاوز 60 دولاراً في العام القادم ويقارب 70 دولاراً عام 2018. ويفترض هذا الحساب اللجوء إلى احتياطيات البنك المركزي ، بصفة رئيسة، لتزويد القطاع الخاص بالعملة الأجنبية حتى نهاية هذه السنة  2016، ومن ثم الاعتماد كليا على موارد النفط لوحدها.  وتلك المديات من أسعار النفط ممكنة حتى مع استمرار وتأئر النمو الاقتصادي العالمي على مستوياتها المقدرة الآن.والأمل  بتحسن سعر النفط يستند إلى فرض بقاء عرض النفط من  بلدان منظمة اوبك قريبا من 32 مليون برميل يوميا، في عام 2016 ، وإن الطلب العالمي سيرتفع بنحو 1.3 مليون برميل في اليوم ويمتص الفائض الذي يتعذر استيعابه في تعزيز الخزين، بعد ان وصل إلى الحجوم المطلوبة في عام 2015. لكن الأمر يتطلب دوام المراقبة والتركيز على كيفية إدامة الحياة الاقتصادية من دون مخاطر، والتحسب لبقاء سعر النفط  منخفضا اي دون 60 دولاراً في العام القادم 2017 ، لأن في تلك الحالة تصبح الحاجة ماسة لقرارات صعبة لم نتهيأ لها إلى الآن.