سندات حكومة العراق وسياسة الدَين العام

 

 

 

 

سندات حكومة العراق وسياسة الدَين العام

¨ د. أحمد إبريهي علي 

أوراق الدين الحكومي من ادوات الأستثمار في السوق المالية ومنها السندات، والسند بمثابة عقد بين المقترِض، الحكومة،  والمستثمر وهو المقرِض الحائز على السند. وتختلف اوراق الدين عن الأئتمان المصرفي  في سهولة التداول وإشتغال السياسة النقدية عليها عبر عمليات السوق المفتوحة. إذ يستطيع البنك المركزي توسيع السيولة بحيازة أوراق دين حكومي من السوق الثانوية، وهو المقصود بتنقيد الدين،  او تحجيم السيولة  بالتخلي عنها اي بيعها للمصارف. ويخضع حجم الدين الحكومي لشروط استدامة المالية العامة والمديونية،ومنها أن يبقى الدين في نطاق القدرة على تحقيق فوائض مستقبلية في الموازنة العامة لسداده. ولا بد ان ينسجم الأقتراض، بإصدار اوراق دين إضافية، مع الحجم المناسب من الأنفاق الحكومي، بحيث تتحاشى السياسة المالية الضغوط التضخمية من جهة ، ومن جهة أخرى عدم توسيع عجز ميزان المدفوعات الخارجية إلى الحد الذي لا تسمح  به الأحتياطيات من العملة الأجنبية والقروض الميسرة من الخارج.   وتصدّر أوراق الدين الحكومي  بآماد زمنية مختلفة، فمثلاً، من شهر إلى 30 سنة في بريطانيا بعدد 17 مدة زمنية،  كي تستجيب لمختلف تفضيلات السوق. وفي سويسرا من يوم واحد، الذي يسمى الأستثمار الليلي،  إلى 30 سنة ، وفي فرنسا من شهر إلى 50 سنة، وتصدر حكومة الجيك، ايضا،سندا بمدة 50 سنة، وفي مصر يوجد إقراض للحكومة  من يوم واحد إلى عشر سنوات ، …، وبعض الدول يقتصر إصدارها على سنة فأكثر مثل كوريا الجنوبية، ويصدر العراق حوّالات خزانة بثلاثة اشهر وستة اشهر وسنة، وهو الآن بصدد اصدار سندات  ربما لا يزيد أمدها على ثلاث سنوات. والأقتراض الحكومي بشكل عام هدفه تمويل عجز الموازنة، وإذا كانت مدة الأقتراض دون الثلاثة أشهر إلى اليوم الواحد فهذا الأقتراض يرتبط، على الأكثر، بالعجز المؤقت في نقدية الموازنة، وليس بالضرورة لعدم كفاية الأيرادات للنفقات.
وعادة تسمى اوراق الدين الحكومي لأكثر من سنة سندات، ودون السنة حوالات،  وأحيانا تطلق السندات على جميع الآماد. ولا تتخذ أدوات الدين الحكومي بالضرورة شكل الأوراق، بالمعنى الحرفي، بل توثق لدى جهة تعينها الضوابط  السارية، و البنوك المركزية وشركات الأسواق المالية  من الجهات المعتمدة للتوثيق، بمثابة شاهد مؤتمن بين المستثمر حامل ورقة الدين والحكومة التي أصدرت الورقة. و يستثمر جزء كبير من أحتياطيات  البنوك المركزية للبلدان النامية، وأموال حكوماتها التي على شاكلة الأحتياطيات مثل صناديق الأستقرار والأجيال القادمة، في أوراق الدين الحكومي للبلدان المتقدمة.
وتستوفى الفائدة على الدين قصير الأمد، الحوّالات،  عند السداد وتسمى  أوراق القسيمة الصفرية وهي أوراق خصم، بمعنى ما، لأن المسثمر يدفع  اقل من القيمة الأسمية، الظاهرة، للحوّالة ويستلم القيمة الأسمية عند الأجل . اما السندات  فترفق بها قسيمة ويسمى سعر الفائدة سعر القسيمة، وتدفع الفائدة كل ستة أشهر، وهوالغالب، ويمكن تقصير فترات الدفع . وأوراق الدين الحكومي قابلة للتداول ولذا قد يشتري المسثمر سندا لمدة ثلاثين سنة ويتخلى عنه في السوق بعد مدة قد تطول او تقصر، وليس مضطرا للأحتفاظ به حتى يحين الأجل . كما أن  قيمة السند في السوق قد تتغير لتختلف عن قيمته الأسمية، أو سعر الأصدار، وذلك تبعاً لتغيرات اسعار الفائدة في السوق. فعندما تنخفض اسعار الفائدة، دون سعر القسيمة، ترتفع قيمة السند في السوق والعكس صحيح. وتعد اوراق الدين الحكومي  خالية من المخاطر لأن الحكومة لا تفشل في سداد ديونها. وان مبلغ الفائدة على السند يبقى متعلقا بسعر القسيمة وتحسب على القيمة الأسمية للسند بغض النظر عن سعر السوق. ولأن سعر السند في السوق، اي قيمته، في تغير لذلك يعتمد مفهوم العائد على السند، والمقصود به معدل العائد الداخلي ، وهو سعر الخصم الذي يجعل القيمة الحاضرة لمدفوعات الفائدة المستقبلية مع القيمة الأسمية للسند مساوية لقيمته السوقية في الوقت الحاضر. ويكون معدل العائد على السند، في اغلب الحالات، أدنى من سعر الفائدة على الأقراض المصرفي، والمقصود دائما سعر الفائدة السنوي ومعدل العائد السنوي ونقارن فيما يلي سعر الفائدة على الأقراض المصرفي مع معدل العائد السنوي للسند الذي مدته ثلاث سنوات،  لأن السند العراقي المنتظر بهذه المدة  : في البرازيل مثلا سعر الفائدة على الأقراض المصرفي 32 بالمائة ومعدل العائد على السند   15.5 بالمائة تقريبا؛ وفي الولايات المتحدة الأميركية  سعر الفائدة على الأقراض المصرفي 3.3 بالمائة ومعدل العائد على السند 0.9 بالمائة اي دون الثلث؛ وفي كوريا الجنوبية 4.3 بالمائة للأقراض المصرفي ومعدل العائد على السند 1.5 بالمائة تقريبا، وفي الهند 10.3 بالمائة لسعر فائدة الأقراض المصرفي و العائد على السند 7.5 بالمائة تقريبا.
وعادة يتزايد معدل العائد  السنوي على السند مع طول مدته. ويفسر  تفاوت الدول في اسعار الفائدة ومعدلات العائد على السندات بإختلاف معدلات التضخم، لأن إحدى وظائف سعر الفائدة او العائد على السند الوقاية من التضخم. وفي البلدان عالية الأنفتاح المالي تؤثر تغيرات سعر الصرف باسعار الفائدة فعند إنخفاض سعر الصرف للعملة التي صدر بها السند يطلب المستثمر عوضا بسعر فائدة اعلى. لكن الدول تتعمد أحيانا خفض سعر الفائدة، والعائد على السند الحكومي ، بسياسات معروفة من أجل خفض اسعار صرفها على امل زيادة صادراتها كما فعلت اوربا، اليورو تجاه الدولار، ودول اخرى. وفي السنوات ألأخيرة إنخفضت معدلات العائد على السندات الحكومية في الدول المتقدمة عموما وذلك لأن السندات تمثل ملجأ آمنا من المخاطر. وكانت العوائد السنوية على السندات الحكومية سالبة في فرنسا للسندات التي مدتها دون سبع سنوات، وفي المانيا وهولندا للسندات دون 8 سنوات، وفي السويد دون السبع سنوات.  وتقدر، حسب أحد التقارير، الديون ذات العوائد السالبة بمقدار 5.5 ترليون دولار في العالم. وعادة ينظر إلى السند الحكومي في السوق المالية بصفة المرجع  لمعرفة أسعار الفائدة، ويقاس هامش المخاطر بالفرق بين سعر الفائدة على الدين، او القرض المعين،  ومعدل العائد على السند الحكومي لنفس الأمد. لكن هذه العلاقة بين العائد على السند الحكومي واسعار الفائدة قد ترتبك في أزمات الديون السيادية، وهي ازمات تحصل تجاه الدين الخارجي وليس الداخلي أوعندما تكون عملة الدين مستقلة عن سلطة الدولة مثل حالة اليونان.  وفي العراق كان معدل التضخم منخفضا في السنوات السابقة ولا يتجاوز 3 بالمائة في الفترة القريبة الماضية، وهذه ميزة إيجابية للمستثمر وللحكومة. ويفضل طرح السندات المزمع إصدارها في مزاد وخاصة للأصدارات الجديدة في السوق مثل حالة العراق ، لأن من الصعب ترك سعر الفائدة للأجتهادات، او على الأقل إتباع إجراءآت تحاكي المزاد بالتدرج في سعر الفائدة، اي سعر القسيمة، صعودا.
ويمكن إتخاذ إصدار السندات منطلقا لتطوير سياسة وإدارة الدين العام في العراق، وذلك بإستكمال البناء التحتي الفني  إنطلاقا من تأسيس نظام إدارة نقدية الموازنة، بعملتين، وربط حسابات الموازنة المفتوحة لدى المصارف بالحساب الرئيسي للموازنة في البنك المركزي. وايضا تنسيق أسعار الفائدة على حوّالات الخزانة مع اسعار الفائدة على الأيداع والأقراض المصرفي واسعار الفائدة على إستثمارات المصارف في ادوات البنك المركزي وجميعها مع العائد على السند الجديد. إن التنسيق المطلوب ليس سهلا حتى في البلدان المتقدمة ماليا، لكن لا بد من العمل لخفض حالات عدم الأتساق إلى أدنى ما يمكن. ومبدأ التنسيق معلوم وهو ان اسعار الفائدة تتزايد مع طول الأمد والمخاطر، ويرتفع متوسط سعر الفائدة  بعلاقة طردية مع التضخم. كما ان السوق المالية في العراق تفتقر إلى العمق، إذ ان مجموع الأصول المالية المتمثلة بحجم الأئتمان وادوات الدين الحكومي والأسهم التي  بحوزة القطاع الخاص قليلة نسبة إلى الناتج المحلي الأجمالي. ومن جهة اخرى قد لا يتجاوز مجموع ودائع القطاع الخاص عشرة بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي. ولذا يصبح دور البنك المركزي اساسياً لرفد السوق بالسيولة ولتسهيل تسويق اوراق الدين الحكومي، وشمول السندات  التي تشتريها المصارف بعمليات السوق المفتوحة اي قابليتها للخصم لدى البنك المركزي.  وتبقى موارد التمويل من القطاع الخاص محدودة ، هذه السنوات، لحين إزدهار النشاط الأستثماري في العراق وتعميق السوق المالية. وهنا، ايضا، لا نستبعد عودة بعض رؤوس الأموال العراقية من الخارج، وقد يصار إلى السماح للأجانب بحيازة السندات، مثلما يسمح لهم في حيازة الأسهم العراقية. وتدريجيا تكتسب الدوائر المعنية خبرات من خلال العمل، وتكيّف الضوابط والأجراءآت مع مقتضيات تطوير السوق المالية في العراق. وقد يرى البعض صعوبة في تحديد اسعار قسيمة السندات بالمزاد طالما يراد للجمهور الأشتراك في الشراء. لكن هذه المسألة قابلة للمعالجة ربما عبر  تمثيل المصارف للجمهور في المزاد، او ترتيبات مبتكرة أخرى.  وكانت من جملة أسباب التحفظ على طرح سندات لآماد زمنية ابعد الخشية من تكبيل الموازنة بمدفوعات فائدة لمدة طويلة بينما قد تنتفي الحاجة للدين عند تحسن اسعار النفط وعودة العراق إلى الوضع الأعتيادي. ومن الحلول المعتمدة في دول اخرى ، لهذه المشكلة، إحتفاظ الجهة المصدرة للسندات بحق الأطفاء المبكر بعد مرور مدة هي تحددها، ولا يوجد مانع من استخدام الحكومة لهذا الحق. ومن جهة المستثمر لا بأس كذلك من إصدار سندات تمنحه الحق في الأطفاء المبكر، ويحدد المزاد  سعر القسيمة للسندات مع هذه المزايا للحكومة او المستثمر الحامل للسند. وللتأكيد على تداولية السندات، حتى يطمئن الحائز على سيولتها، من المناسب ان تبادر بعض المصارف بالأعلان عن إستعدادها  لشراء السندات من السوق الثانوية، مع إستعداد البنك المركزي على معاملة السندات بحوزة المصارف مثل الحوّالات في القابلية للخصم. والسندات الحكومية من الضمانات الممتازة في الأقتراض المصرفي ، وهي ميزة اخرى للمستثمر بهذه الأدوات.