تشير السيادة الداخلية إلى الشؤون الداخلية للدولة، وموقع السلطة العليا داخل هذه الدولة. وبالتالي فإن السيادة الداخلية هي هيئة سياسية تمتلك سلطة قصوى نهائية ومستقلة، سلطة قراراتها ملزمة لكل المواطنين، والمجموعات والمؤسسات في المجتمع.

إن مهمة تحديد موضوع السيادة الداخلية في الحكومة الحديثة أمر صعب بشكل خاص، ويكون ذلك أوضح ما يكون في حالة الدول الفيدرالية، أو مع مبادئ الليبرالية الديمقراطية، أو مع اللامركزية، إذ أدخلت هذه المفاهيم، شخصيات قانونية غير الدولة، بنقل صلاحيات أكثر أو أقل أهمية، وهذه الشخصيات هي الجماعات الداخلية التي استفادت من هذا النهج، ويأخذ الرباط المحافظ على السلطة المركزية شكل الرقابة الإدارية التي تتفحص من جهتها غير المركزية الممثلة للدولة(1).

إذ يعتبرها بعض المفكرين بأنها نقيض للسيادة؛ لأنها تدعو إلى توزيع السلطة بين عدد من المؤسسات التي لا أحد منها يستطيع الادعاء بشكل له معنى بأنه يتمتع بالسيادة، بالرغم من اعتقاد روسو، بإن السيادة تكمن في الجماهير “الإرادة العامة”. أما في الدول الفيدرالية، كالعراق، فإن الحكومة تكون مقسمة إلى مستويين، ويمارس كل مجموعة من السلطات المستقلة ذاتياً. وكما يعتقد كثيرون، بأن الفيدرالية تتضمن تقاسم السيادة بين هذين المستويين، بين المركز والمحيط.

غير أن الفيدرالية في تطَّورها لمفهوم السيادة المقسومة أو المشتركة قد حَرَّكت التصور بعيداً عن الاعتقاد التقليدي في سلطة سيادة مفردة وغير قابلة للقسمة. بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الممكن افتراض أن كلا المستويين من الحكم لايمكن في النهاية وصفها بأنهما ذوى سيادة؛ لأن السيادة تترك للوثيقة التي تختص سلطة كل مستوى “الدستور”، ويمكن بالطبع القول: بأن السيادة القانونية في العراق تكمن في الدستور؛ لأنه يحدد سلطات الحكم الفيدرالي، ويوزع الواجبات والسلطات والوظائف، والرئاسة والمحكمة الاتحادية، وبالتالي فإنه يحدد طبيعة النظام الفيدرالي، لكن نظراً لامتلاك المحكمة الاتحادية العليا سلطة تفسير الدستور، يمكن أن يفترض أن السيادة تكمن في المحكمة الاتحادية، مع ذلك لا يمكن وصف المحكمة الاتحادية بدقة بأنها الحكم الدستوري الأعلى، بما ان تفسيرها للدستور يمكن أن يسقط بواسطة تعديلات للوثيقة الأصلية. بهذا المعنى يمكن القول بان السيادة تكمن في الآلية المخولة بتعديل الدستور ومقدار نسبها، سواء كانت بنسبة معينة أو بالأغلبية المطلقة أو البسيطة. لكن في الأخير يمكن القول بإن السيادة في العراق هي للشعب العراقي، بما تتضمنه المواثيق الدستورية والسلطات العامة(2). لذلك علينا أولاً تحديد نوع المنظار الذي نضعه في تقييم التجربة العراقية بعد عام٢٠٠٣ “كما يقول رئيس الوزراء العراقي السابق السيد عادل عبد المهدي” فالدول تتخلى طوعاً أو كرهاً عن سيادتها في أمور، كما عند الانتماء للمنظمات الدولية، والقبول أن تكون مواثيقها حاكمة عليها في عدة أمور(سياسية واقتصادية، وتجارية، وأمنية) أو عند التوقيع على معاهدات أو اتفاقات دولية مع دول أو تحالفات، كالتحالف الدولي الذي تشَّكل ضد تنظيم داعش في العراق بعد اجتياح محافظة نينوى؛ لذلك نقول في التجربة العراقية جعلت المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات الدولية في العراق بيد السلطة التشريعية باعتبار أنها من تستطيع أن تقرر مصالح البلاد وطرق الحفاظ على سيادتها.

فضلاً عن ذلك يجب استحضار الطبيعة الحقيقية والعوامل المهيمنة لهيكلية النظام العالمي والعلاقات بين الدول، أين موقعنا من هذا النظام، فهل نحن في قممه ودوائره العليا ولنا كلمة وقرار في تلك الدوائر، أم نحن في مراتبه الدنيا، نُحكم ونُقاد باليات مباشرة وغير مباشرة، وما اوزان هذه وتلك؟ فهذه القضايا تصبح هي الحاكمة والمقررة عملياً لسيادتنا الحقيقية، وليس الشكليات والنصوص الورقية(3).

هذه الإشكاليات والتقاطعات ساهمت بشكل كبير في تعقيد أزمة السيادة العراقية، وحتى وأن سلمًّنا بالسيادة في الدستور العراقي النافذ عام٢٠٠٥، فالدستور يحمل ثغرات كبيرة كشفتها التطبيقات العملية، أو تلك التي لم يلتفت لها المشرعون، فضلاً عن ذلك، فان الدستور اخضع لمزاجية وإرادة القوى السياسية وفُسرت الكثير من فقراته ومواده سياسياً، مما افقده الكثير من المعاني الحقيقية بوصفه القانون الاسمى للبلاد. فصار الدستور في كثير من الاحيان عامل فوضى وانقسام بدل أن يكون عامل حسم لإرادة الأمة وعامل وحدة واستقرار والحافظ لسيادته.

أما اذا سلمنا بالسيادة المتمثلة بالسلطة التشريعية، او المحكمة الاتحادية، فكلاهما قد اخضعت لمزاجية القوى السياسية والسلطة التنفيذية أيضاً. بموازاة ذلك، فالتجربة العراقية بعد عام2003 ما تزال بعيدة عن السيادة الشعبية بمعناها الدستوري والسياسي في ظل التلاعب بنتائج الانتخابات وعدم نزاهة العملية الانتخابية، وتواجد للقوات الأجنبية والجماعات المسلحة وتحكمها بالقرار العراقي بشكل أو بأخر.

فضلاً عن ذلك، فإن النظام اللامركزي والفيدرالي الذي طُبق في العراق بعد عام٢٠٠٣، ووضع المحافظات والحكومات المحلية وإقليم كردستان، طرح ويطرح اسئلة عديدة في سلسلة من الامور السيادية وتحديد اختصاصات الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية، أو كدور القوى المسلحة الموروثة من مرحلة الكفاح ضد النظام السابق داخلياً كالبيشمركة أو بدر أو غيرها، أو مدى التحكم بالمنافذ الحدودية والمطارات والسياسات الاقتصادية والنفطية والسياسية. بل افرزت الخلافات المكوناتية حالات من الطعن بسلطة الدولة، وما تزال تمثل تحدي كبير أمام سلطة الدولة وسيادتها على اراضيها. هذه جميعها تعَّقد المشهد السيادي وتتطلب غربلة مفاهيمية وفكرية وتطبيقية وخرائط طرق بين صناع القرار وأطراف المواثيق الوطنية. فهي تضعف من سلطات الدولة وتولد التضارب في تعريف الوطنية والمواطنة والوطني.

كذلك تكمن إشكالية السيادة العراقية في العديد من القضايا، ولاسيما ما يتعلق منها بالدستور النافذ، الذي ولد ميتاً بسبب تواجد الاحتلال وسلطته الحاكمة لكل مفاصل العملية السياسية والأمنية، والمؤسسات التي حددها الدستور، إذ لم تكن مؤسسات اندماجية، بل فئوية عاجزة عن بناء هوية وطنية جامعة، بالإضافة إلى أن الانتخابات والعملية الانتخابية برمتها كسلوك وممارسة عملية، كانت شكلية وفاسدة. أما واقع الفيدرالية الذي زاد وعمَّق وساهم في تصَّدع السيادة العراقية، ولعب دوراً مهماً في تفاقم أزمة العراق سيادياً، “وربما لم تكن الإشكالية في النموذج نفسه” بقدر ما تكمن في كيفية تطبيقه على أرض الواقع.

فمع دخول هذا النموذج حيز التنفيذ أصبحت الدولة تعاني مزيداً من الترهل بدلاً من تحقيق التكامل والتماثل والاندماجية، ولاسيما في ظل الضبابية وعدم الوضوح في العلاقة بين المركز والإقليم وضبابية القوانين والتشريعات على المستوى الفيدرالي. مما زاد من إشكالية السيادة وساهم في خلق تعددية للسلطات الموازية لها(4). فضلاً عن ذلك، فإن النموذج الفيدرالي لم ينبثق من القاعدة الشعبية العراقية، بل أُسقط عليها من فوق، فالولايات المتحدة أجبرت العراق على تبني هذا النموذج سعياً منها لتشتيت السلطة والقرار والمضي بمشروعها في تقسيم العراق إلى أقاليم صغيرة مقسمة طائفيا وقومياً.

والسيادة كما نعرف، منوطة بالدولة ككل، فهي كلُ واحد لا يتجزأ. وليس للأقليات القومية أو العرقية التي تشكل دولة متعددة الأعراق مثل العراق، أن تطالب بحصتها الخاصة من تلك السيادة، ولا يكون الشعب أو الأمة رمزاً لسيادة دولة حديثة التكوين إلا عندما يمارس هذا الشعب أو هذه الأمة حق تقرير المصير ويشكلان دولة مستقلة(5). إذ اخضعت السيادة الداخلية بموجب هذا النموذج لتوزيع طائفي واثني منذ مجلس الحكم الانتقالي، وكّرس للأسف قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر٨أذار/ مارس٢٠٠٤، الذي ثُبّت في الدستور الدائم المستفتي عليه في١٥تشرين الاول/أكتوبر عام٢٠٠٥، الذي تحدث عن ما يسمى بالمكونات مرتان، وفي المواد (٩و١٢و٤٩و١٢٥و142).

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2022
www.fcdrs.com

…………………………………..
المراجع
(*). المقال عبارة عن مطلب مستل من بحثنا الموسوم (إشكالية السيادة في عقيدة الأحزاب السياسية العراقية: دراسة في المقاربة الإسلامية – العلمانية) الفائز بالمرتبة الاولى في المسابقة العلمية التي نظمها معهد العلمين عن (ازمة العراق سياديًا) بتاريخ 4/12/2021
1)).جاك باغنار، الدولة…مغامرة غير أكيدة، ترجمة نور الدين اللباد، ط١، مكتبة مدبولي، القاهرة،٢٠٠٢،ص112.
2)). أندرو هيوود، النظرية السياسية: مقدمة، ترجمة: لبنى الريدى، ط1، المركز القومي بالترجمة، القاهرة، 2013، ص167-170.
(3).عادل عبد المهدي، أزمة العراق سيادياً، أزمة العراق سيادياً، اعداد: محمد بحر العلوم، ط1، العلمين–دار العارف للنشر، النجف، 2021، ص64.
(4).هاني محمود عبد موسى، أزمة الدولة في العالم العربي: دراسة مقارنة لحالتي العراق والسودان، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة تونس المنار، تونس، ٢٠١٨،ص211.
5)). عداد فلادمير كارتاشكين، إقامة العدل وسيادة القانون والديمقراطية، ورقة عمل: لجنة حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، الدورة ٥٨، ٢٠٠٠٥،ص4.

المصدر: شبكة النبأ المعلوماتية