You are currently viewing السياسة النقدية في زمن كورونا….. حالة العراق
Baseball ball on money bills

السياسة النقدية في زمن كورونا….. حالة العراق

د. سلطان جاسم النصراوي
كلية الادارة والاقتصاد – جامعة كربلاء


تلقى الاقتصاد العالمي ضربة قوية جراء تفشي فيروس كورونا COVID-19 ومن ثمً أصبح جائحة عالمية لا يمكن السيطرة عليها لتتحول الى ازمة اقتصادية واجتماعية وصحية منقطة النظير. وقد أصبحت مراقبة آثار فيروس كورونا واحتواؤها وتخفيف حدتها على رأس الأولويات، وفي هذا السياق، اتخذت الدول والحكومات إجراءات غير مسبوقة لمكافحة الجائحة بغية حماية المجتمعات والافراد، وبادرت السياسة المالية العامة بتوفير دعم كبير للأفراد والشركات الأشد تأثرا، بما في ذلك القطاعات غير الرسمية من أجل المحافظة على استمرارية النشاط الاقتصادي، وتشير التقديرات الى إن التدابير المالية المتخذة على المستوى الدولي بلغت نحو 8 تريليون دولار (ما يعادل نحو9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي). كما أعلنت المؤسسات المالية عن حشد مواردها المالية لتقديم المساعدة على مواجهة الوباء على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، اذ أعلن صندوق النقد الدولي IMF عن توفير موارد مالية بقيمة تريليون دولار للدعم الطارئ، وأعلن البنك الدولي IB عن توفير 160 مليار دولار خلال الخمس عشر شهر القادمة.
اما على صعيد السياسة النقدية، والتي اثبتت الوقائع التاريخية الاقتصادية دورها الناجع في مواجهة الازمات والتخفيف من حدتها وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وليس اخرها الازمة المالية العالمية 2007 (ازمة الرهن العقاري) فيمكن كن أن تساعد الإجراءات الحاسمة التي تتخذها السلطات الصحية والبنوك المركزية والهيئات التنظيمية والرقابية في الوقت المناسب على احتواء تفشي الفيروس وموازنة الأثر الاقتصادي لهذه الجائحة.
1- إجراءات السياسات النقدية الدولية لمواجهة كورونا
مع انتشار الفيروس عالمياً انبرت البنوك المركزية والمؤسسات المالية لاتخاذ جملة من التدابير والإجراءات الحاسمة لتأمين استقرار الاقتصاد والأسواق وتعزيز الثقة ومحاولة تجنب ركود عميق طويل المدى وفي هذا الإطار، اتجهت البنوك المركزية في دول العالم الى تبني تدابير وحزم إجراءات بلغت نحو 6 ترليون دولار، وتمثلت التدابير بخفض كبير لأسعار الفائدة، وحفز الائتمان ودعم السيولة، وتنفيذ برامج ضخمة للتيسير الكمي QE Quantitative easing وتخفيف الضغوط على قطاع الاسر والشركات.
ففي الولايات المتحدة الامريكية خفض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة القياسية بمقدار 150 نقطة أساس لتتراوح بين 0.25 – 0%، كما قرر تعزيز حيازته من السندات بمقدار 700 مليار دولار، وقدم تسهيلات لدعم تدفق الائتمان وتمويل الأوراق التجارية لتسهيل إصدار الأوراق التجارية وتسهيلات ائتمان لتوفير التمويل للتجار الأساسيين بضمان مجموعة واسعة من الأوراق المالية من الدرجة الاستثمارية والتسهيلات الائتمانية للشركات في السوق الأولية لشراء سندات وقروض جديدة من الشركات.
وعلى مستوى الاتحاد الأوربي، قرر البنك المركزي الأوروبي تقديم الدعم للسياسة النقدية في دول الاتحاد من خلال عمليات شراء أصول إضافية بقيمة 120 مليار يورو حتى نهاية عام 2020 وتوفير مزادات إضافية مؤقتة لمخصصات السيولة المؤقتة ذات المعدل الثابت بسعر تسهيلات الودائع وبنود أكثر ملاءمة لعمليات إعادة التمويل المستهدفة طويلة الأجل الحالية، وشملت التدابير الإضافية برنامجًا إضافيًا لشراء الأصول بقيمة 750 مليار يورو من الأوراق المالية من القطاعين العام والخاص وتخفيف المعايير الإضافية لعمليات إعادة تمويل النظام الأوروبي (MROs ، LTROs ، TLTROs، وأوصت البنوك بتجنب الافتراضات المؤيدة للدورة الاقتصادية.
في حين أعلنت المملكة المتحدة عن اجراءات تخفيض سعر البنك بمقدار 65 نقطة أساس إلى 0.1 % وتوسيع ملكية البنك المركزي لسندات الحكومة البريطانية وسندات الشركات غير المالية بمقدار 200 مليار جنيه استرليني وتقديم مخطط تمويل مؤقت جديد لتعزيز انتقال تخفيض سعر الفائدة، مع حوافز إضافية لإقراض للاقتصاد الحقيقي، وبخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وقدم 330 مليار جنيه استرليني من القروض والضمانات المتاحة للشركات وهو ما يمثل (%15 من الناتج المحلي الإجمالي)
وقام بنك الصين الشعبي بضخ السيولة بمبلغ 3.27 تريليون يوان في النظام المصرفي عبر عمليات السوق المفتوحة، وتوسيع تسهيلات إعادة الإقراض وإعادة الخصم من خلال 1.8 تريليون يوان لدعم مُصنعي المستلزمات الطبية وتخفيض معدلات الريبو لمدة 7 أيام و14 يوماً بمقدار 30 و 10 نقاط أساس على التوالي ، وتسهيلات الإقراض متوسط الأجل لمدة عام واحد بمقدار 30 نقطة أساس ، و تخفيضات بنسبة 50-100 نقطة أساس للبنوك الكبيرة والمتوسطة التي تستوفي معايير التمويل الشاملة التي تفيد الشركات الصغيرة، وعلى مستوى سعر الصرف وميزان المدفوعات تم السماح لسعر الصرف بالمرونة وتم رفع سقف التمويل عبر الحدود في إطار التقييم الاحترازي الكلي بنسبة 25 % للبنوك وغير البنوك والمؤسسات.

اما في كوريا الجنوبية قام البنك المركزي الكوري برفع سقف تسهيلات الإقراض الوسيط للبنك بما مجموعه 5 تريليون وون كوري (نحو 0.26٪ من الناتج المحلي الاجمالي) كما وسع البنك المركزي الكوري الضمانات المؤهلة لعمليات السوق المفتوحة وتسهيلات الإقراض وبدأ في إجراء عمليات إعادة الشراء مع غير البنوك. في 24 مارس، أعلن الرئيس مون عن خطة لتحقيق الاستقرار المالي بقيمة 100 تريليون وون كوري (5.3% المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأقدم بنك إندونيسيا على تخفيض سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساسية الى 4.5 % في 19 مارس. وأعلن البنك أيضًا عن تدابير أخرى تتضمن خفض نسب متطلبات الاحتياطي للبنوك وزيادة المدة القصوى لعمليات إعادة الشراء والعكس (حتى 12 شهرًا) وإدخال مزادات الريبو اليومية وزيادة وتيرة مزادات مبادلة العملات الأجنبية لمدة 1 و3 و6 و12 شهرًا من ثلاث مرات أسبوعيًا إلى المزادات اليومية، وزيادة حجم عمليات إعادة التمويل الأسبوعية الرئيسية حسب الحاجة. كما تدخل بنك إندونيسيا في أسواق الصرف الأجنبي الفورية والمحلية للحفاظ على ظروف السوق المنظمة.
وفي البرازيل قرر البنك المركزي تخفيض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس الى مستوى تاريخي بلغ 3.75% لزيادة السيولة، وتدخل البنك المركزي مرات عديدة في سوق الصرف الأجنبي (مع مبيعات العقود الفورية والمشتقات) بما مجموعه 22 مليار دولار أمريكي تقريبًا (6 في المائة من إجمالي الاحتياطيات).
في حين أعلن البنك المركزي الإيراني عن تخصيص أموال لاستيراد الأدوية واتفقت مع البنوك التجارية على تأجيلها لمدة ثلاثة أشهر لسداد القروض المستحقة في فبراير 2020 وعرضت إعفاءات للعملاء الذين لديهم قروض متعثرة، وأعلن البنك المركزي الإيراني عن ضخ 1.5 مليار دولار أمريكي في سوق الصرف الأجنبي لتحقيق الاستقرار في الريال.
اما على مستوى الدول العربية، شملت حزم التدابير والإجراءات خفض أسعار الفائدة وضخ السيولة وتخفيض نسب الاحتياطي وتأجيل المدفوعات على الافراد والمشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ففي السعودية، قامت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) بتخفيض أسعار سياستها مرتين في مارس، وخفضت معدلات الريبو والريبو العكسية إلى 0.5 و1% على التوالي وأعلنت مؤسسة النقد العربي السعودي عن حزمة بقيمة 50 مليار ريال سعودي (13.3 مليار دولار وما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي) لدعم القطاع الخاص، وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، من خلال توفير التمويل للبنوك للسماح لها بتأجيل مدفوعات القروض القائمة وزيادة الإقراض للشركات. في حين أعلن مصرف الامارات العربية المتحدة المركزي عن تخفيض سعر الفائدة على السياسة مرتين بمعدل 125 نقطة أساس في 14 آذار / مارس. وكشف بنك الكويت المركزي عن حزمة بقيمة 100 مليار درهم إماراتي (27 مليار دولار أمريكي أو 6.7٪ من GDP) تشمل قروض مضمونة بدون فائدة للبنوك والسماح باستخدام احتياطيات رأس المال الفائضة للبنوك وقام مصرف قطر المركزي QCB بتخفيض أسعار سياسته مرتين بما يتماشى مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (للحفاظ على ربط العملة) وتم تخفيض معدل الريبو بمقدار 100 نقطة أساس إلى 1.5% كما سيوفر مصرف قطر المركزي سيولة إضافية للبنوك العاملة في الدولة من خلال نافذة إعادة شراء خاصة بسعر فائدة صفري لتأجيل أقساط القرض أو منح قروض جديدة. في حين قام البنك المركزي الأردني بتخفيض معظم أسعار السياسة بمقدار 100 نقطة أساس في 16 مارس، وأعلن عن مجموعة إجراءات تهدف إلى احتواء تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد منها السماح للبنوك بتأجيل أقساط التسهيلات الائتمانية الممنوحة لعملاء القطاعات المتأثرة بالفيروس، وضخ سيولة إضافية للبنوك بقيمة 550 مليون دينار عن طريق تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي. وفي المغرب قام البنك المركزي بتخفيض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى 2% لدعم الشركات وتم تعليق مدفوعات القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة وقرر بنك المغرب توفير السيولة للقطاع المصرفي وضمانات الائتمان لتشمل أدوات الدين العام والخاص (بما في ذلك القروض العقارية) وزيادة وإطالة عمليات إعادة تمويل البنك المركزي لدعم الائتمان المصرفي للشركات الصغيرة والمتوسطة.
إجراءات السياسة النقدية العراقية في سياق الازمة.
واجهت السياسة النقدية بعدم عام 2003 ضغوطات كبيرة بسبب التركة الثقيلة من المرحلة السابقة، إذ ورثت مديونية عالية وارصدة مجمدة وضغوط تضخمية جامحة عصفت بالاقتصاد العراقي، وبات البنك المركزي منذ عام 2004 جهة مستقلة بموجب القانون لا يمثل رافعة مالية لتمويل العجز في الموازنة على غرار ما كان يحدث قبل 2003.

واستطاع السيطرة على مناسيب السيولة وتحقيق الاستقرار السعري والذي كان ولا زال الهدف الرئيس للسياسة النقدية في العراق، من خلال نافذة بيع العملة، وفي هذا السياق استطاع البنك المركزي بناء احتياطيات ضخمة من العملة الأجنبية قادرة على تحقيق الاستقرار السعري وتقليص احتمالات تدهور أسعار الصرف وتغطية احتياجات البلد من الاستيرادات. الى جانب كونها مؤشر على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية.
وفي ظل الازمة المزدوجة (انخفاض أسعار النفط والحرب على تنظيم داعش الإرهابي)، انبرت السياسة النقدية الى محاولة تحقيق الاستقرار في الأسعار وتلبية طلبات العملة الأجنبية لأغراض التصدير وغيرها، مما سببا استنزاف واضح وكبير للاحتياطيات الأجنبية اخلال المدة 2015-2017 نتيجة انخفاض أسعار النفط الى جانب عدم الاستقرار الأمني والعسكري وتراجع الإيرادات المالية للدولة، اذ انخفضت من نحو 77.7 مليار دولار في عام 2013 لتصل الى ما يقارب 30 مليار دولار في عام 2017 الى جانب قيامها بتمويل عجز الموازنة بطريقة غير مباشرة عن طريق خصم حوالات الخزينة من الأسواق الثانوية بما يقارب 16 ترليون دينار.
وخلال الازمة الراهنة (ازمة كورونا وانخفاض أسعار النفط) تأثر الاقتصاد العراقي بشكل حاد من تداعيات هذه الصدمة، فلا موازنة مالية تدير الوضع الاقتصادي للبلد، ولا موارد مالية متوفرة لمواجهة تفشي وباء كورنا ولا تخصيصات مالية للقطاع الصحي المتهالك للتخفيف من حدة الاثار الصحية، ولا سياسة مالية قادرة على دعم الاقتصاد في ظل انخفاض حاد وقوي لأسعار النفط (المورد الوحيد تقريباً لتمويل الاقتصاد)، ولا توجد خطة للإنقاذ المالي في ظل الحاجة المتزايدة للإنفاق الاجتماعي والحاجة الى دعم المتضررين بفعل إجراءات الحضر وتعطيل الاعمال. وواجهت السياسة النقدية ضغوطات كبيرة وتعرضت أسعار الصرف الى تقلبات تجاوزت النسب المعيارية المُقدرة 2% وذلك بسبب انخفاض أسعار النفط وتوقعات الاقتصاد الكلي وانغلاقه تحت تأثير انتشار الوباء، هذه الصدمة أدت الى عجز في الحساب الجاري كنسبة من GDP وعجز في إيرادات الموازنة العامة.
وفي هذا السياق، وفي اطار الجهود الرامية الى درء الخطر الداهم حاولت السياسة النقدية مواجه الصدمة والتخفيف من حدتها من خلال دعم جهود وزارة الصحة لمكافحة جائحةCOVID-19، إذ أنشأ البنك المركزي العراقي صندوقاً لجمع التبرعات من المؤسسات المالية بتبرعات مبدئية بقيمة 20 مليون دولار من البنك المركزي العراقي نفسه و5 ملايين دولار من البنك التجاري العراقي TBIكما أعلن البنك المركزي عن تجميد الفائدة والمدفوعات الرئيسية من الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال مبادرة الإقراض الموجه (مبادرة “تريليون دينار عراقي)، وشجع البنوك على تمديد آجال استحقاق جميع القروض حسبما تراه مناسبًا. كما شجع البنك المركزي على استخدام المدفوعات الإلكترونية لاحتواء انتقال الفيروس، وكلف البائعين بإلغاء العمولات على هذه المدفوعات للأشهر الستة المقبلة.
ستؤثر التداعيات المرتبطة بفيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط على أداء السياسة النقدية في العراق، فقد تشهد الاحتياطيات الأجنبية انخفاضات خلال المرحلة المقبلة نتيجة انخفاض أسعار النفط وسيكون الانخفاض هذه المرة اشدة وطأة من ذي قبل كون ان الاحتياطات الأجنبية لم تصل الى بعد الى مستويات ما قبل الازمة المزدوجة (2014-2018)، وقد تواجه أسعار الصرف تقلبات تؤثر على استقرار الأسعار، وقد يقوم البنك المركزي بتمويل عجز الموازنة بصورة غيرة مباشرة، مما يمثل تحدياً جديداً لجهود البنك المركزي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلد.