مفارقة البطالة في اقتصاد نفطي
أ.م.د حيدر حسين آل طعمة
ايلول / سبتمبر 2015
افصحت تجارب النمو والتطور الاقتصادي الذي شهدته البلدان النفطية، دول مجلس التعاون الخليجي خصوصا، عن انحسار معدلات البطالة فيها نظرا للوفرة المالية ودورها في تنشيط مختلف القطاعات الاقتصادية القادرة على امتصاص القوى العاملة وبمختلف المهارات والاعمار، بل اصبحت هذه البلدان مراكز جذب لمعظم الكفاءات والايدي العاملة المهاجرة من مختلف بلدان العالم. على النقيض من ذلك، يشهد الاقتصاد العراقي مفارقة مذهلة حين يولد اعداد متزايدة من الباحثين عن العمل في ظل موازنات انفجارية بدأت تتسع منذ العام 2003.
ولم تبرز في العراق ظاهرة البطالة بمعدلاتها المتفاقمة خلال عقد الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي بسبب ظروف التعبئة العسكرية العامة التي شملت معظم السكان النشطين اقتصادياً، لذا لم تتجاوز معدلاتها 5% حسب إحصاءات عام 1987 ، إلا إن البطالة بعد عام 2003 أخذت تشكل هاجساً مقلقاً للدولة بعد ان تفاقمت معدلاتها وتنوعت اتجاهاتها وتعددت اسبابها بحيث تجاذبت أسباب الماضي مع ظروف الحاضر في دفع معدل البطالة الى الارتفاع ليصل الى 28% حسب مسح التشغيل والبطالة لعام 2003 ([1]).
ويبدو، بدلالة مؤشرات التشغيل والبطالة في العراق، ان تفاعل السياسات المعتمدة مع اوضاع المرحلة الانتقالية لم تنجح في تحقيق نسب تشغيل مقبولة. او تحقيق الموائمة المثلى بين حق الانسان في التعليم وحقه في فرص العمل. خصوصا وان المجتمع العراقي على وشك الدخول فيما صار يعرف بالهبة الديمغرافية مع ارتفاع نسبة السكان في سن العمل الى اكثر من 55% من اجمالي السكان([2]). ومن الممكن ان تتحول هذه الهبة الى مشكلة في مجتمع مثل العراق، حيث يعتمد على القطاع الحكومي في توفير فرص العمل، خصوصا مع تجاوز البطالة حاجز 30% عام 2015.
وتعد بطالة خريجي مؤسسات التعليم العالي إحدى الإشكاليات الكبرى التي تواجه المنظومة التعليمية في العراق، اذا لا يتمكن معظم خريجي الجامعات العراقية من الاندماج في الحياة المهنية، مما يؤشر خللا في علاقة الجامعة بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي، وانفصالها عن حاجات هذا المحيط. وبالرغم من محاولات وزارة التعليم العالي تعديل وتحديث المناهج بما ينسجم والتطورات الحديثة وسوق العمل الا ان تعدد الحلقات الادارية والبيروقراطية المعقدة حال دون تنفيذ معظم هذه التعديلات وبقيت حبرا على ورق. والانكى من ذلك امتداد هذه الظاهرة إلى خريجي الدراسات العليا في البلد. وقد شكلت نسبة بطالة الخريجين (ممن يحملون شهادة جامعية فما اعلى) 31.6% عام 2012([3]).
كما يعزى ارتفاع معدلات البطالة، لاسيما بطالة الشباب، الى وجود عدد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية التي تواجه البلد بشكل عام وتؤدي الى تضخيم اعداد البطالة باستمرار. لعل من اهم هذه التحديات تأزم الوضع السياسي والامني في البلد وانعكاسه على معظم القطاعات الاقتصادية، وتسارع معدلات نمو القوة العاملة، وانعدام سياسات تمكين الشباب واخفاق المؤسسات الحكومية المعنية (وزارة العمل والشؤون الاجتماعية) في تحقيق نجاحات تذكر اقلها الحد من تدفق العمالة الاسيوية، وتدهور النمو الاقتصادي بسبب تراجع اسعار النفط في الاسواق العالمية، بالإضافة الى تحديات اخرى تتعلق بالحاجة الى زيادة مستويات مساهمة القطاع الخاص في توفير فرص العمل.
ولمكافحة هذه الظاهرة ينبغي على الحكومة تبني برامج متقدمة للتدريب والتأهيل تساهم في تمكين قوة العمل العراقية ورفع مستوى مهارتها بحيث تكون هذه البرامج متجانسة ومتناغمة مع متطلبات سوق العمل العراقي. ولمعالجة الاختلالات الهيكلية في توزيع قوة العمل بين القطاعات السلعية وغير السلعية لابد من اختيار ودعم القطاعات التي تستوعب أعدادا كبيرة من قوة العمل اي استخدام أسلوب الإنتاج كثيف العمل خفيف رأس المال كقطاع البناء والإنشاءات وقطاع الخدمات والذي سيساهم مساهمة فعالة في معالجة الوتيرة العالية لمعدلات البطالة. كما ان تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في الصناعات المتوسطة والصغيرة عبر منح اعفاءات ضريبية وقروض ميسرة وحماية جمركية من السلع الاجنبية المماثلة سيزيد من فرصة نمو قطاعات انتاجية جديدة قادرة على امتصاص الايدي العاملة، خصوصا اذا وفرت الحكومة وهيئة استثمار التسهيلات اللازمة لتحفيز هذه المشروعات عبر منح اراضي واجازات استثمار وتذليل العقبات الادارية والحد من الفساد والبيروقراطية المتفشية في مختلف الحلقات الادارية.