التحول الاستراتيجي في سياسة الأوبك : اختلاط السياسة بالاقتصاد
أ.م. د حيدر حسين آل طعمة
كانون الثاني / يناير 2016
دفع قرار اوبك مطلع ديسمبر الماضي اسعار النفط الخام الى موجة جديدة من الهبوط السعري بسبب امتناع منظمة البلدان المصدرة للنفط عن تحديد سقف انتاجي يكبح التدهور الحاد في الاسعار. وقد أبدت المنظمة استعدادها لتحمل انخفاض الأسعار لفترة أطول من أجل حماية حصتها في السوق وكبح إنتاج منافسيها. السياسة الجديدة لأوبك تبعث بإشارات سلبية لأسواق النفط الخام وتزيد من اغراق الاسواق بكميات اضافية من الامدادات، خصوصا مع اصرار كبار منتجي النفط خارج اوبك (مثل روسيا) على زيادة معدلات الانتاج ووعود الحكومة الايرانية بضخ قرابة مليون برميل يوميا الى الاسواق حال رفع العقوبات الاقتصادية مطلع العام 2016.
دوافع السياسة والاقتصاد
تقف المملكة العربية السعودية وعدد من بلدان الخليج (الامارات وقطر والكويت تحديدا) وراء التحول في استراتيجية “أوبك” صوب الدفاع عن الحصص السوقية، بدلا من خفض الإنتاج لدعم الأسعار. في المقابل تحاول كل من إيران والجزائر والعراق وفنزويلا، وهي من أشد دول أوبك تضررا من هبوط أسعار النفط، وضع صيغ مختلفة بخصوص حاجة المنظمة لتعظيم الإيرادات كهدف اساس لأوبك. ويمكن ابراز اهم المبررات التي تبرر الدوافع الاقتصادية والسياسية الكامنة خلف التحول الاستراتيجي في سياسة اوبك تجاه تقلبات اسعار النفط، وكما يلي:
1-تتجاهل الاستراتيجية الجديدة الانحدار الحاد في اسعار النفط بحجة إمكانية انعكاس انخفاض الأسعار على معدلات الإنتاج العالمية من النفط الخام غير التقليدي، بخاصة في الدول ذات كلف الإنتاج الباهظة، على اعتبار أن كلفة إنتاج النفوط غير التقليدية أكثر حساسية للأسعار من إنتاج النفوط التقليدية، وبالتالي ستزيح الاسعار المتدنية للنفط جزء كبير من المنتجين، خصوصا منتجي النفط الصخري. وهكذا فان تحجيم دور النفط الصخري في خريطة الطاقة الدولية لن يعيد زمام المبادرة في تحديد الأسعار العالمية للنفط الى المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما سيعمل في المستقبل أيضا على إحكام هيمنة المملكة مجددا على امدادات الطاقة في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم.
2-تغير المناخ وارتفاع أسعار النفط الخام حتى منتصف العام 2014 ادى الى زيادة كفاءة استخدام الطاقة، وتشجيع مصادر الطاقة المتجددة، وتسريع التحول نحو أنواع بديلة من الوقود مثل الغاز الطبيعي، وخاصةً في الأسواق الناشئة التي تعتمد على الطاقة في النمو. ومع القلق العالمي حول انبعاثات الكربون، وتنامي الجهود المبذولة للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري تزداد فرصة التخلي عن النفط الخام كمصدر رئيس للطاقة في المستقبل القريب. وبذلك فان تامين امدادات نفط رخيصة يحد من فرصة نمو مصادر طاقة متجددة ويزيد من هيمنة النفط على مصادر الطاقة البديلة.
3-لم يفكر السعوديون كثيرًا بذروة إنتاج النفط، وهي النظرية القائلة بأن إمدادات النفط العالمية، وبعد أن سارت في مسار تصاعدي لمدة قرن ونصف، على وشك التوقف عن الارتفاع ولن تعود قادرة على مواكبة الطلب. بل ان الذروة التي تثير قلق السعوديين أكثر هي ذروة الطلب، وليست ذروة الإنتاج. على اعتبار ان ذروة النفط انتقلت من جانب العرض، كما تنبأ البعض بذلك في السبعينات من القرن الماضي إلى جانب الطلب. ويعد هبوط اسعار النفط بفعل زيادة الانتاج أحد العوامل التي يمكن ان تغير اتجاه ذروة الطلب على النفط الخام.
4-تراهن اوبك ايضا على امكانية ان يأخذ انخفاض اسعار النفط مفعوله في زيادة الاستهلاك وتحسن مستويات الطلب على النفط بفعل تعافي الاقتصاد العالمي. خصوصا مع تعثر الاقتصاد العالمي وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في بلدان تعد قاطرة لنمو الاقتصادي العالمي.
5-تخوض الرياض حربا غير معلنة على طهران بسبب برنامجها النووي، وتريد إضعاف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط الممتد من العراق إلى غزة ولبنان ومن سوريا إلى اليمن. وتتهم إيران بعض بلدان اوبك (محور الخليج تحديدا) في الاصرار على اغراق السوق النفطية لأجل الحفاظ على سعر نفط منخفض والاضرار بالمصالح الاقتصادية لبعض البلدان المنتجة للنفط، وترى كذلك بان سياسة المملكة العربية السعودية خفض الاسعار لتعزيز القدرة التنافسية للنفط التقليدي مقابل النفط الصخري لم تنجح في كبح معدلات نمو الاخير ولا في تعافي اسعار النفط للعام الثاني على التوالي، وان الشركات النفطية الكبرى ماضية في تطوير وتحديث ادوات الصناعة النفطية لأجل التكيف مع سعر 40 دولار للبرميل.
مستقبل اسعار النفط
لقد تغيرت ديناميكيات أسواق الطاقة بشكل ملحوظ نتيجة طفرة إنتاج النفط الصخري، التي أصبحت محركة للسوق. ومع تلبية هذا المصدر الجديد للمزيد من الطلب العالمي على الطاقة، وخاصة في الولايات المتحدة، انحسر اعتماد مستهلكي الطاقة على منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك وغيرها من المنتجين. كما أصبح المستهلكون أقل عُرضة للمخاوف الجيوسياسية نظرا لتخمة الاسواق بالنفط الخام ووصول الطاقة الاستيعابية للخزين الاستراتيجي العالمي حدوده القصوى. كذلك طرأت تغيرات استراتيجية على جانب العرض، أهمها الإعلان التاريخي الصادر عن السعودية بأنها لن تستمر في قيادة أوبك عبر الاضطلاع بدور المُنتج المرجح، ولن تخفض الإنتاج عندما تسجل الأسعار هبوطا شديدا، وأنها ستزيد من إنتاجها استجابة لأي زيادات حادة في الأسعار.
على المدى القصير لن يتغير الواقع النفطي الجديد الا بإعادة النظر بسياسات اوبك عبر ضبط ايقاع الزيادة في الانتاج والالتزام بالحصص المقررة مع ضرورة التعاون والتنسيق مع كبار المنتجين خارج اوبك حول الاسعار والحصص السوقية. اما على المدى المتوسط والبعيد فإن تخفيض شركات النفط الكبرى وشركات الخدمات لاستثماراتها وتسريح الآلاف من منتسبي تلك الشركات، وانخفاض اعداد أبراج الحفر العاملة في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انقلاب الوضع وبدء دورة جديدة من زيادة الأسعار لا يستطيع أحد التنبؤ بمداها أو وقت حدوثها، خاصة إذا ارتبطت بأوضاع جيوسياسية غير مستقرة في مناطق مهمة من العالم بالنسبة لسوق الطاقة.
التحول الاستراتيجي في سياسة الأوبك : اختلاط السياسة بالاقتصاد
أ.م. د حيدر حسين آل طعمة
كانون الثاني / يناير 2016
دفع قرار اوبك مطلع ديسمبر الماضي اسعار النفط الخام الى موجة جديدة من الهبوط السعري بسبب امتناع منظمة البلدان المصدرة للنفط عن تحديد سقف انتاجي يكبح التدهور الحاد في الاسعار. وقد أبدت المنظمة استعدادها لتحمل انخفاض الأسعار لفترة أطول من أجل حماية حصتها في السوق وكبح إنتاج منافسيها. السياسة الجديدة لأوبك تبعث بإشارات سلبية لأسواق النفط الخام وتزيد من اغراق الاسواق بكميات اضافية من الامدادات، خصوصا مع اصرار كبار منتجي النفط خارج اوبك (مثل روسيا) على زيادة معدلات الانتاج ووعود الحكومة الايرانية بضخ قرابة مليون برميل يوميا الى الاسواق حال رفع العقوبات الاقتصادية مطلع العام 2016.
دوافع السياسة والاقتصاد
تقف المملكة العربية السعودية وعدد من بلدان الخليج (الامارات وقطر والكويت تحديدا) وراء التحول في استراتيجية “أوبك” صوب الدفاع عن الحصص السوقية، بدلا من خفض الإنتاج لدعم الأسعار. في المقابل تحاول كل من إيران والجزائر والعراق وفنزويلا، وهي من أشد دول أوبك تضررا من هبوط أسعار النفط، وضع صيغ مختلفة بخصوص حاجة المنظمة لتعظيم الإيرادات كهدف اساس لأوبك. ويمكن ابراز اهم المبررات التي تبرر الدوافع الاقتصادية والسياسية الكامنة خلف التحول الاستراتيجي في سياسة اوبك تجاه تقلبات اسعار النفط، وكما يلي:
1-تتجاهل الاستراتيجية الجديدة الانحدار الحاد في اسعار النفط بحجة إمكانية انعكاس انخفاض الأسعار على معدلات الإنتاج العالمية من النفط الخام غير التقليدي، بخاصة في الدول ذات كلف الإنتاج الباهظة، على اعتبار أن كلفة إنتاج النفوط غير التقليدية أكثر حساسية للأسعار من إنتاج النفوط التقليدية، وبالتالي ستزيح الاسعار المتدنية للنفط جزء كبير من المنتجين، خصوصا منتجي النفط الصخري. وهكذا فان تحجيم دور النفط الصخري في خريطة الطاقة الدولية لن يعيد زمام المبادرة في تحديد الأسعار العالمية للنفط الى المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما سيعمل في المستقبل أيضا على إحكام هيمنة المملكة مجددا على امدادات الطاقة في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم.
2-تغير المناخ وارتفاع أسعار النفط الخام حتى منتصف العام 2014 ادى الى زيادة كفاءة استخدام الطاقة، وتشجيع مصادر الطاقة المتجددة، وتسريع التحول نحو أنواع بديلة من الوقود مثل الغاز الطبيعي، وخاصةً في الأسواق الناشئة التي تعتمد على الطاقة في النمو. ومع القلق العالمي حول انبعاثات الكربون، وتنامي الجهود المبذولة للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري تزداد فرصة التخلي عن النفط الخام كمصدر رئيس للطاقة في المستقبل القريب. وبذلك فان تامين امدادات نفط رخيصة يحد من فرصة نمو مصادر طاقة متجددة ويزيد من هيمنة النفط على مصادر الطاقة البديلة.
3-لم يفكر السعوديون كثيرًا بذروة إنتاج النفط، وهي النظرية القائلة بأن إمدادات النفط العالمية، وبعد أن سارت في مسار تصاعدي لمدة قرن ونصف، على وشك التوقف عن الارتفاع ولن تعود قادرة على مواكبة الطلب. بل ان الذروة التي تثير قلق السعوديين أكثر هي ذروة الطلب، وليست ذروة الإنتاج. على اعتبار ان ذروة النفط انتقلت من جانب العرض، كما تنبأ البعض بذلك في السبعينات من القرن الماضي إلى جانب الطلب. ويعد هبوط اسعار النفط بفعل زيادة الانتاج أحد العوامل التي يمكن ان تغير اتجاه ذروة الطلب على النفط الخام.
4-تراهن اوبك ايضا على امكانية ان يأخذ انخفاض اسعار النفط مفعوله في زيادة الاستهلاك وتحسن مستويات الطلب على النفط بفعل تعافي الاقتصاد العالمي. خصوصا مع تعثر الاقتصاد العالمي وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في بلدان تعد قاطرة لنمو الاقتصادي العالمي.
5-تخوض الرياض حربا غير معلنة على طهران بسبب برنامجها النووي، وتريد إضعاف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط الممتد من العراق إلى غزة ولبنان ومن سوريا إلى اليمن. وتتهم إيران بعض بلدان اوبك (محور الخليج تحديدا) في الاصرار على اغراق السوق النفطية لأجل الحفاظ على سعر نفط منخفض والاضرار بالمصالح الاقتصادية لبعض البلدان المنتجة للنفط، وترى كذلك بان سياسة المملكة العربية السعودية خفض الاسعار لتعزيز القدرة التنافسية للنفط التقليدي مقابل النفط الصخري لم تنجح في كبح معدلات نمو الاخير ولا في تعافي اسعار النفط للعام الثاني على التوالي، وان الشركات النفطية الكبرى ماضية في تطوير وتحديث ادوات الصناعة النفطية لأجل التكيف مع سعر 40 دولار للبرميل.
مستقبل اسعار النفط
لقد تغيرت ديناميكيات أسواق الطاقة بشكل ملحوظ نتيجة طفرة إنتاج النفط الصخري، التي أصبحت محركة للسوق. ومع تلبية هذا المصدر الجديد للمزيد من الطلب العالمي على الطاقة، وخاصة في الولايات المتحدة، انحسر اعتماد مستهلكي الطاقة على منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك وغيرها من المنتجين. كما أصبح المستهلكون أقل عُرضة للمخاوف الجيوسياسية نظرا لتخمة الاسواق بالنفط الخام ووصول الطاقة الاستيعابية للخزين الاستراتيجي العالمي حدوده القصوى. كذلك طرأت تغيرات استراتيجية على جانب العرض، أهمها الإعلان التاريخي الصادر عن السعودية بأنها لن تستمر في قيادة أوبك عبر الاضطلاع بدور المُنتج المرجح، ولن تخفض الإنتاج عندما تسجل الأسعار هبوطا شديدا، وأنها ستزيد من إنتاجها استجابة لأي زيادات حادة في الأسعار.
على المدى القصير لن يتغير الواقع النفطي الجديد الا بإعادة النظر بسياسات اوبك عبر ضبط ايقاع الزيادة في الانتاج والالتزام بالحصص المقررة مع ضرورة التعاون والتنسيق مع كبار المنتجين خارج اوبك حول الاسعار والحصص السوقية. اما على المدى المتوسط والبعيد فإن تخفيض شركات النفط الكبرى وشركات الخدمات لاستثماراتها وتسريح الآلاف من منتسبي تلك الشركات، وانخفاض اعداد أبراج الحفر العاملة في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انقلاب الوضع وبدء دورة جديدة من زيادة الأسعار لا يستطيع أحد التنبؤ بمداها أو وقت حدوثها، خاصة إذا ارتبطت بأوضاع جيوسياسية غير مستقرة في مناطق مهمة من العالم بالنسبة لسوق الطاقة.