بقلم: جين فريدا
لندن ــ دَفَـع تجميد قسم كبير من احتياطيات روسيا الرسمية من النقد الأجنبي بعض المراقبين حتما إلى التنبؤ بزوال “الامتياز الباهظ” الذي يتمتع به الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية المفضلة. لكن لا ينبغي لنا أن نسارع إلى كتابة نعي الدولار بعد.
الواقع أن العقوبات المفروضة على احتياطيات روسيا من المرجح أن تعزز من أسبقية الدولار باعتباره العمود الفقري لنظام العملة الورقية. وقد لا يتسارع تآكل مكانة الدولار إلا إذا استخدمت الولايات المتحدة مثل هذه العقوبات المالية بانتظام كسلاح هجومي في السياسة الخارجية.
صحيح أن الدولار في السنوات الأربع الأخيرة ــ وهي فترة غلبت عليها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) ــ كان يشكل 40% فقط من تراكم الاحتياطيات الجديدة، مقارنة بنحو 23% لليورو. وقفزت حصة الرنمينبي الصيني من الاحتياطيات الجديدة إلى 10%، في حين اكتسب الين الياباني والجنيه الإسترليني أيضا المزيد من الأرض.
على الرغم من كل هذا، ليس من الواضح على الإطلاق أن الثقة في الدولار تتضاءل. أولا، كان نمو الاحتياطي العالمي على مدار السنوات الأربع الأخيرة جزءا ضئيلا من النمو السريع الذي شهدته السنوات الخمس السابقة واللاحقة للأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، مما يعكس انحسار اختلالات التوازن العالمية. فقد انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات من 73% في عام 2001 إلى 59% في العام الفائت. لكن أغلب هذا الانخفاض حدث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما ارتفعت الاحتياطيات بمقدار 8.1 تريليون دولار (مقارنة بنحو 2.6 تريليون دولار في العقد الأخير).
ثانيا، أدى التخصيص الجديد الذي أصدره صندوق النقد الدولي العام الفائت بقيمة 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة (الأصول الاحتياطية التي يصدرها صندوق النقد الدولي) إلى تقليص حصة الدولار في نمو الاحتياطي العالمي على نحو ظاهري مصطنع أثناء الجائحة. تستند حقوق السحب الخاصة إلى سلة عملات تصل حصة الدولار فيها إلى 42%، في حين تبلغ حصة اليورو 31%، وحصة الرنمينبي 11%، وحصة الين 8%، وحصة الجنية الإسترليني 8%. ولأن حقوق السحب الخاصة تنشأ في الأساس لصالح اقتصادات متقدمة لا تستخدمها أبدا، فإن هذه الحصص تعمل فعليا على تضخيم حصص الاحتياطيات الأجنبية غير الدولارية.
أخيرا، تحتفظ البلدان التي تتمتع بعلاقات أمنية قوية مع الولايات المتحدة ــ بما في ذلك الغالبية العظمى من الدول التي تمتلك أكبر قدر من الاحتياطيات من النقد الأجنبي ــ بحصة أكبر من المتوسط من احتياطياتها بالدولار عادة. وما دام حلفاء الولايات المتحدة في أسيا وأوروبا يعتبرون الضمانات الأمنية الأميركية جديرة بالثقة، فإن هذه الدول ليس لديها حافز كبير للتحول بعيدا عن الدولار.
إن تجميد الاحتياطيات ليس بالأمر الجديد، لكن التدابير المتخذة ضد روسيا تعتبر المرة الأولى التي تُـطَـبَّـق فيها ضد دولة من مجموعة العشرين تتمتع بدرجة عالية من التكامل التجاري والمالي العالميين. من منظور المستثمرين الأجانب، يشكل تجميد الاحتياطيات بهدف خلق حالة من الذعر المالي تهديدا وجوديا، من حيث احتمال خسارة رأس المال أو احتجازه في الداخل.
لم تكن فعالية العقوبات المفروضة على الاحتياطيات الروسية نابعة من التدابير الأميركية وحدها، بل من الخطوات المتوافقة التي اتخذتها أوروبا واليابان. فقد ضمنت مشاركتهما شبه الإجماع بحكم الأمر الواقع، لأن البنوك الصينية أصبحت عازفة عن التعامل مع روسيا خشية التعرض للعقوبات بدورها.
ولكن في الوقت الحالي، لا تنطبق علاوة مخاطر العقوبات على احتياطيات النقد الأجنبي واقعيا إلا على الدول المعرضة لخطر كبير بسبب التدابير المنسقة عالميا ــ وبالتحديد الصين. وعندما يتعلق الأمر بالغالبية العظمى من الدول الأخرى، فيجب أن تظل مخاطر العقوبات منخفضة. وسوف يظل تنويع الاحتياطيات ممارسة منطقية، لكن من المرجح أن تستفيد منه البلدان التي تعتبر “بعيدة عن العقوبات”.
وفي حين أثارت الحرب التجارية الأميركية مع الصين وتجميد الاحتياطيات الروسية مرة أخرى مخاوف الخروج الجماعي من الدولار، فإن السؤال هو “إلى أين؟” تدعم تأثيرات الشبكة القوية “الامتياز الباهظ” الذي يتمتع به الدولار، وبوسعنا أن نقول إن العقوبات المفروضة على روسيا عززت مكانته كمرساة. بوضع كل العناصر في الاعتبار، يبدو تقسيم الاحتياطي بنسبة 60/40 بين الدولار والعملات الأخرى مناسبا.
في حين يجب أن يستمر الرنمينبي في الاستفادة من الروابط التجارية القوية بين الصين والدول ومصدري السلع الأساسية الأصغر حجما، فمن المرجح أن يتراجع التحدي الذي يفرضه على الدولار بسبب تفاقم حالة عدم اليقين فيما يتعلق بسيادة القانون وعلاوات مخاطر العقوبات. ربما تكون البنوك المركزية الأكبر حجما أشد عزوفا عن الاحتفاظ بالرنمينبي بسبب مخاطر العقوبات الغربية والمخاطر المقابلة المتمثلة في اضطرار الصين إلى العودة إلى فرض ضوابط رأس المال على الأجانب. لذا، يجب أن تظل العملة الصينية تمثل جزءا ضئيلا من الاحتياطيات العالمية.
ينبغي لحصة اليورو من الاحتياطيات العالمية أن تنتعش إذا عادت العوائد إلى المنطقة الإيجابية. ويمثل التقدم المحرز مؤخرا في تقليص خطر تفكك منطقة اليورو شرطا مسبقا لكل من أسعار الفائدة الأعلى وحصة أكبر من الاحتياطيات العالمية. مع ذلك، يظل لزاما على أوروبا أن تعالج القضايا التي عملت على الإبقاء على حصة اليورو من الاحتياطيات عند مستوى أقل من 30% قبل أزمة منطقة اليورو: أسواق رأس المال المحلية المجزأة وآليات تثبيت الاستقرار المعيبة في مواجهة التقلبات الدورية.
تتمتع دول أخرى ببعض قيمة تنويع المخاطر. لكنها على المستويين الفردي والجماعي أصغر كثيرا من أن تشكل بديلا يمكن التعويل عليه للولايات المتحدة والصين وأوروبا كمقصد للاحتياطيات.
مع ذلك، قد يتوقع المرء تداعيات طويلة الأمد نتيجة لتجميد الاحتياطيات الروسية. فسوف تسعى الصين إلى عزل احتياطياتها القائمة عن العقوبات المحتملة. وسوف يفكر مصدرو السلع الأساسية كيف يستثمرون احتياطيات النقد الأجنبي المسكوكة حديثا والناشئة عن طفرة السلع الأساسية الحالية. كما سيبادر المستثمرون الأجانب، من القطاعين العام والخاص، إلى تقييم الأضرار الجانبية المحتملة من العقوبات المالية التي قد تؤثر على قابلية أصول الرنمينبي للتحويل في الداخل.
ولكن ما الذي قد يتسبب في نهاية المطاف في قلب هيمنة الدولار المستمرة رأسا على عقب؟ إذا كان للتاريخ أن يتوافق مع تجربة المملكة المتحدة قبل قرن من الزمن، فسوف يشمل ذلك مزيجا من فرط استخدام العقوبات المالية الأميركية، والمزيد من الركود الاقتصادي في الداخل، وتآكل مصداقية الضمانات الأمنية في الخارج. يبدو هذا السيناريو أقرب كاحتمال مما كان عليه قبل خمس سنوات. ولكن لا تراهنوا على حدوثه في أي وقت قريب.
جين فريدا، خبيرة استراتيجية عالمية في بيمكو، هي زميلة زائرة أولى في كلية لندن للاقتصاد.