الدلالات الفكرية للأزمة الماليّة العالمية
13-10-2008
عبدالرحيم بن صمايل السلمي
يُعدّ الانهيار الاقتصادي لسوق المال الأمريكي من أكبر الانهيارات الاقتصادية في تاريخ الاقتصاد الغربي المعاصر، فقد أفلست أكبر البنوك الأمريكية مثل بنك ليمان براذرز الاستثماري في 15/9/ 2008, وخلّفت وراءها دماراً هائلاً لا تزال تداعياته مستمرة إلى الآن.
وفي هذا المقال لست معنياً بتتبع توصيفات الأزمة، والتحليلات الاقتصادية المهنيّة المرتبطة بها، ولكنني سوف أشير إلى بعض الدلالات الفكرية في هذه الأزمة، والتي سيكون لها آثار كبيرة على صعيد الفكر الاقتصادي العالمي.
والراصد لتاريخ الفكر الغربي المعاصر يجد أن الاضطرابات وردود الأفعال والانكسارات الحادة من أبرز سماته وتطبيقاته، فهو يتغير ويتقلب حسب تقلبات السوق، وهذا يؤكد الارتباط التاريخي بين الطبقة التجارية (البرجوازية) والفكر الليبرالي الذي أسس للنظام الرأسمالي المعاصر.
سقوط الليبرالية الجديدة ووهم العولمة
اعتمد الفكر الاقتصادي الغربي بعد الثورات الكبرى -التي أسقطت الاقطاع- على النظام الرأسمالي، وهو نظام الاقتصاد الحر، ويقوم هذا النظام على “الليبرالية” كقاعدة فلسفية وفكر مؤسس يبرر له كافة تصرفاته.
وترى “الليبرالية الاقتصادية” ضرورة حرية السوق وعدم التدخل فيه بأي شكل من الأشكال، وأن الدولة يجب أن تكون “محايدة” و”محدودة” في التعامل مع الأسواق، والعمل بقاعدة “دعه يعمل، دعه يمر”، وأن في السوق “قوّة خفيّة” أو “يداً خفيّة” -كما يرى آدم سميث- قادرة على تنظيم السوق ذاتياً دون أدنى تدخل من الدولة.
وهذا التصور الليبرالي الخيالي لم يطبق بصورته الكاملة لأنه غير قابل للتطبيق، وقد كان أقوى صعود لهذا الفكر الحدي في القرن التاسع عشر, فكانت نتائجه كارثية في النصف الأول من القرن العشرين حيث وقع الكساد العظيم (1929م)(1)، ووقعت الحرب العالمية الأولى والثانية.
ثم حصل تحول فكري في الفكر الليبرالي الرأسمالي على يد المفكر الاقتصادي جون ماينارد كينز(2), قَلبَ الفكرة القائلة بأن كثرة العرض تولد كثرة الطلب وهي المعروفة (بقانون ساي للأسواق), فقال: بأن تدخل الدولة ضروري جداً لحفز الاقتصاد من خلال الدعم الاجتماعي للناس، وهذا بدوره سيولد كثرة الطلب، بالإضافة إلى تنظيم الاقتصاد والسعي إلى مايسمى “بدولة الرفاة”،وهذا التحول لم يدم طويلاً فقد صعدت الليبرالية مرة أخرى في أواخر السبعينات من خلال “مدرسة شيكاغو”(3), والتي تسمى “الليبرالية الجديدة”، وهكذا أقنع علماء الاقتصاد في شيكاغو زعماء أكبر الدول الصناعية بتبني النظرية الليبرالية المتوحشة، فتبنتها بريطانيا (التاتشرية)، وأمريكا (الريجانية).
وهذه الكوارث على الصعيد الفكري ليست نتيجة أزمة الرهن العقاري؛ بل هي ممتدة إلى ما قبل ذلك وإلى السبعينات تحديداً عند صعود نجم الليبرالية من جديد.
ومع أن الفترة من السبعينات إلى الآن مرت بكوارث وانهيارات مثل “أزمة النمور الآسيوية”، و”أزمة المكسيك” وغيرها إلاّ أن هذه الأزمة هي الأكبر والأشمل.
ودلالة سقوط الليبرالية الجديدة في هذه الأزمة, مأخوذة من كذب دعوى أن السوق ينظم نفسه بنفسه، فأين “اليد الخفية” التي زعمها آدم سميث عن “وول ستريت” لتنظيمه والمحافظة عليه من الانهيار؟
وكذلك فإن تسليم ملف سوق المال للشرطة الفيدرالية (FBI), يدل على أن سوق المال تحول إلى منطقة أمنية خطرة ممتلئة بالعصابات والمجرمين والوحوش العابثة، وهي بذلك تجاوزت تحريم الليبرالية لتنظيم الاقتصاد إلى إدخال الاقتصاد مخافر الشرطة للتحقيق الجنائي معه, وهذا بلا ريب يصفي الوجود الفكري لليبرالية بالكامل، ويدل على المخاطر الكبرى من إهمال الأسواق دون رقابة.
والفكر الغربي -البعيد عن الهدي الرباني- لا يعرف إلاّ فتح الأسواق لكل أنواع المعاملات المحرمة, أو التدخل الظالم في السوق ومنع الناس من العمل في أموالهم، وكبت حرياتهم، فهو لم يعرف المنهج العادل الذي جاء به الإسلام، المتمثل في أن الأصل حرية التعامل في حدود المشروع، ومنع كافة أشكال الظلم والاحتيال والعبث بالسوق, مع الرقابة على السوق لإيقاف كافة التجاوزات غير الشرعية وغير الأخلاقية.
وهذه الأزمة تدل بوضوح على أن الأسواق إذا تركت انقلبت إلى غابة متوحشة يأكل فيها القوي الضعيف، ولهذا تفتقت الذهنية الرأسمالية عن حزمة من المعاملات الغريبة والمعقّدة كانت نتيجتها السقوط والانهيار.
ومن الغريب أن بعض دعاة الليبرالية الجديدة لا زال يدافع عن فاعلية اقتصاد السوق الحر, ويعتذر عن هذه الانهيارات، ويطالب بالحذر من التدخل في الأسواق، وترك المجال لآليات السوق لتؤدي دورها!!(4)، والأغرب منه دفاع بعض دعاة التغريب في بلاد المسلمين عن الرأسمالية, والمطالبه مع هذه الأزمات بتطبيق نموذج للاقتصاد الحر بصورته الغربية!!
ضرورة التحرر الاقتصادي للأمة الإسلامية
لقد تَمّ دمج اقتصاديات البلاد الاسلامية بعد مرحلة الاستعمار في الاقتصاد الرأسمالي للدول الصناعية الكبرى(5)، كما تم دمجها سياسياً في المنظومة ذاتها من خلال هيئة الأمم المتحدة, وأصبحت الأمة تعاني من “تبعيّة” مقيتة، وضعف في إدارة نفسها بنفسها، ولهذا فإن هذه الأزمة ستؤثر عليها ولابد، والأمة الإسلامية تملك مقومات القوّة الاقتصادية إذا تحررت من “التبعيّة”، وهذا بحاجة إلى إرادة قوية، ووعي ثاقب ينظر إلى الحاضر والمستقبل، وأمانة تستشعر المصالح العليا للأمة.
ضرر الربا والديون (الائتمان)
لقد أعطت هذه الأزمة برهاناً ساطعاً على خطر الربا، وهو دليل واقعي يراه الانسان بعينه، وهي من الدلائل التي يستأنس بها لايقاظ من لم تردعه النصوص الشرعية، والتحذيرات الإيمانية من هذا “الوباء الاقتصادي” فالله تعالى يقول :{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. (سورة البقرة 276)
وقد نهى الرسول عن الربا وهو في مجتمع قروي صغير, فبانت آثاره الآن في المجتمعات الصناعية المعقّدة، كما أنه حذّر من التوسع في الدين المباح فكيف بالديون المحرمة؟
ولهذا جاء في صحيح مسلم: ” يغفر للشهيد كل ذنب إلاّ الدين”, ولم يصلّ على من مات وعليه دين تعظيماً لخطره.
صعود “النظام الاقتصادي الاسلامي“
لقد كشفت أزمة “وول ستريت” عن عقم النظم الاقتصادية الغربية, التي خرجت من عقول بشرية لا تهتدي بهدي الله تعالى، ولا تعظم دينه، وهذا ما دعى كثيراً من الكتّاب والمفكرين الغربيين إلى المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي والمالي, لوضع حدّ لهذه الأزمة التي تعصف بأسواق المال العالمية من جراء الربا والائتمان (الديون) والمضاربات الوهمية وغيرها(6).
وهذه الأزمة سوف تغيّر الفكر الاقتصادي الغربي، وقد أثبتت الأزمات السابقة أن الفكر الغربي كلّما وقعت له كارثة بسبب أفكاره المادية المتطرفة, قام بتعديل أفكاره وتحويرها وتخفيف العمل بها أو يرتد عليها.
وهذه فرصة لإبراز”النظام الاقتصادي الإسلامي” بصورته الشاملة المتضمنه للإلتزام بالمنهج الرباني، والسلوك الأخلاقي، والتكامل البنائي، وليس المقصود من ذلك الدعوة إلى تطبيق آليات الاقتصاد الإسلامي في الغرب, وإنما دعوتهم إلى الله تعالى من خلال إبراز هذا المجال وتوافقه مع العقل والفطرة والسنة الجارية، وإظهار شمول الاسلام وعدله، واشتماله على مصالح الدين والدنيا، وهذا دليل قاطع على أن هذا الدين من عند الله تعالى.
انتهاء الهيمنة الأمريكية الاقتصادية
أنهت هذه الأزمة أماني الولايات المتحدة في السيطرة على الاقتصاد العالمي، تلك الأمنية التي من أجلها شنّت الحروب المتواصلة في الخليج والبلقان، وهذه النتيجة اعترف بها أصلب المدافعين عن “المحافظين الجدد”، والذين جعلوا (الليبرالية) نهاية التاريخ الإنساني ومن أبرزهم فرانسيس فوكوياما في مقاله “انهيار الإقتصاد الأمريكي”(7)، وقد اعترف فيه بانهيار الليبرالية وتراجع الدور الأمريكي، وفيه إعلان ضمني لسقوط نظريته المسماه (نهاية التاريخ).
وكذلك اعترف فريد زكريا بمضاضة بانتهاء الهيمنة الأمريكية حيث يقول “فتاريخ الرأسمالية حافل بأزمات الائتمان وحالات الهلع، والانهيارات المالية والركود، هذا لا يعني نهاية الرأسمالية لكنه قد يعني من ناحية ما, نهاية سيطرة الولايات المتحدة على الأسواق العالمية”(8), ويقول: “ستكون التداعيات الحقيقيّة للأزمة المالية فقدان النفوذ الأمريكي لشرعيته”(9).
وهذا يعني التغيّر في المعادلة الدولية، وانتهاء عصر القطب الواحد، وهو بدوره سيؤثر على المجموعات التغريبيّة في البلاد العربية والإسلامية, التي ربطت مصيرها بمصير أمريكا، وتطاولت على الثوابت الإسلامية والاجتماعية، وظنت أن الهيمنة الأمريكية فرصة سانحة لتغيير عقائد الناس وأخلاقهم وقيمهم -ولو بالقوة-، والاعتماد على الضغوط الأمريكية على الحكومات العربية الهزيلة في فرض أنماط التغريب على المجتمع, من خلال قرارات سيادية في المجتمع الإسلامي, مثل إلغاء التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وتغريب المرأة، وتغيير المناهج، ومحاصرة العمل الخيري وغير ذلك.
{وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
إن هذه الأزمات من الآثار المعَجَّلة للذنوب، فالذنب له آثاره الدنيوية مثل الهلاك العام، والأمراض، ونقص الأموال والثمرات كما قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (سورة طه 124)، وجاء في مسند الإمام أحمد: “إن أحدكم ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”, وعندما يهتدي الانسان بهدي الله تعالى يحصل له الخير والفلاح والرزق الواسع، يقول تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (سورة الجن 16).
وقد وصلت الجاهلية الغربية إلى مستوى خطير من الإلحاد ومحاربة الله تعالى ودينه، وجمعت كل مالدى الجاهليات القديمة من المحادة لله تعالى، ومن الطبيعي أن تحصل لهم مثل هذه العقوبات، {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (سورة طه 127).
هذه بعض الدلالات المأخوذة من تداعيات هذه الأزمة الكبرى، ولا يزال هناك الكثير، سوف نتحدث عنه في مناسبة أخرى بمشيئة الله تعالى.
———————-
الهامش:
(1) انظر: مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (718)، 11أكتوبر 1982م ص2-22, دراسة: أزمة النظام الرأسمالي, د/ رمزي زكي.
(2) تسمى نظرية كينز في الاقتصاد (النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود)، انظر: حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها, عبدالرحيم السلمي, ص249.
(3) تكونت هذه المدرسة من أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاغو, الذين رمموا الليبرالية وأعادوا إنتاجها، وأشهرهم (ميلتون فريدمان) توفي 26م وخاصة في كتابه (الرأسمالية والحرية) مترجم ومطبوع، وتسمى أيضاً (المدرسة النقدية) لأنها أعطت النقود دوراً مؤثراً في النمو الاقتصادي.
(4) انظر كنموذج لذلك مقال: “أزمة الرأسمالية” (فادي حدادين) في موقع (مصباح الحرية), وهو اللسان الناطق بالعربية لمعهد كاتو في واشنطن، وهو معهد ينشر فكر الليبرالية الجديدة، ويبشر به.
(5) انظر: حقيقة الليبرالية وموقف الاسلام منها, عبدالرحيم السلمي ص438.
(6) إسلام أون لاين: كتاب غربيون: الشريعة تنقذ اقتصاد العالم.
(7) النيوزويك، الثلاثاء 14/1/2008م.
(8) عصر بلومبيرغ, فريد زكريا, النيوزويك الثلاثاء 14/1/2008م.
(9) المصدر السابق.