شُغِل العالم ووسائل إعلامه بالأزمة المالية التي ضربت الأسواق المالية العالمية ، وأصبحت شبحاً يهدد الاقتصاد العالمي ، ونتج ذلك عن الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأميركي الذي يمثل نسبة كبيرة من اقتصاد العالم ، ولقد بدأ الخطر بأزمـة الرهن العقاري وامتدت إلى أزمة أسواق مالية وأزمة بنوك واستثمار ، حتى وصل الأمر أزمة اقتصادية كبيرة ، تسارعت الخطى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وعقدت المؤتمرات وندوات ، خرجت بالتوصيات والمقترحات والدعوات .
وقد دعا مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضم النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي في فرنسا ، وقد استند مجلس الشيوخ الفرنسي على تقارير صادرة عن لجان المالية ومراقبة الميزانية والحسابات الاقتصادية ، وبما أن النظام المصرفي الإسلامي يعيش ازدهاراً واضحاً ، وقابل للتطبيق في فرنسا ، وذلك لاعتماده على القواعد المستمدة من الشريعة الإسلامية ، وهو مريح للجميع مسلمين وغير مسلمين .
منذ انطلاقة عمل الصرافة والتسليف ( أي حوالي 500 سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام ) ، تدخلت السلطات الدينيّة والمدنيّة في التنظيم والرقابة على أعمال التسليف . وأصبح التسليف لذلك لأصحاب الحاجة للأموال من ملوك وحكام ، وخاصةً في الأزمات والحروب . وكان الذين عندهم فائض من المال يخافون عليه يودعونه في المعابـد مع رجالها لما كان للمعابد من هالة احترام وثقة . هؤلاء يتصرفون ويُقرضون المال مما لديهم من ودائع ، يُقرضون المزارعين والمحتاجين وغيرهم . ولم يكن الإقراض أولاً من أجل الاستثمار . وكان يُعتبر أخذ الفائدة على المال المُقْترض من أسوأ أنواع الاستغلال . ([1])
ولقد ظهر التفلّت في أوربا ، ثم ظهرت قوانين وتعليمات قاسية وشديدة جداً بهذا الخصوص منذ القرن العاشر ، واستمرّت هذه القوانين حتى القرن الرابع عشر ، حين اضطرّت السلطات أن تسمح لليهود باستيفاء الفوائد الربويّة على الإقراض . ثمَّ سمحوا لسكان شمال إيطاليا الذين هاجروا إلى شمال فرنسا ، من لمبارديا ، وإلى غيرهم ، بعد أن بدأ اليهود يشقون طريق الربا بإلحاح وبوسائلهم المعهودة .
ولما كان معظم المقترضين هم من الحكام والأمراء وأصحاب النفوذ والسلطان ، فلم يكن من الممكن منع الإقراض ، فامتدَّ التساهل والتسامح مع وجود القوانين المانعة للفوائد ، وللاستفادة من هذا التساهل لتوريط المقرض ، ثم محاكمته ، ثم التخلص منه ومن ديونه . ([2])
وقد كان التاجر أولاً يجلس على مقعد مستطيل ” بنك ” يتلقّى الودائع . وعندما يفلس التاجر يُكسر بنكه أي مقعده ويقولون عنه ” بنكا روتا Banca Rotta” أي بنك مكسور . ثمّ تطوّر هذا المقعد إلى مؤسسة وبناء ، وصار يُطلق على المبنى نفسه ” البنك Bank ” ، وعلى المؤسسة وعملها كذلك .[3]
كلما تجددت الحاجة إلى المال ظهرت مؤسسات لتقرض المال تحت شعارات دينية ، أو خيرية أو إنسانية . فمنهم من يظلّ محافظاً على إنسانيته ثمَّ يتوقف لعدم وجود ربح ، ومنهم من يتحول إلى استغلال الزبائن ثمّ يتوسّع نشاطه.
وكان من أهم المؤسسات التي توسّع نشاطها مؤسسة ” الكهان : Les templiers ” ، التي أخذت تعمل تحت اسم ” فرسان المسيح الفقراء Pauvres Chevaliers Du Christ” . وكان غرض هذه المؤسسة تمويل الحروب الصليبية وتأمين نفقات الفرسان والجنود المقاتلين المتجهين إلى بيت المقدس ، وهم مندفعون بحماستهم ، فيقترضون من المؤسسة لأنه كان عليهم توفير سلاحهم وسائر معداتهم للقتال . واستطاعت هذه المؤسسة ” فرسان المسيح ” أن تنال تأييد البابا في روما ودعم كافة ملوك أوروبا ، فارتفعت الودائع لديهم ارتفاعاً كبيراً ، وأصبح في مقدورهم تحرير الأسرى الصليبيين لقاء تسديد الفدية . فزادت فروعها إلى تسعة آلاف فرع.
ولقد كلفوا الملك لويس التاسع عشر ملك إنجلترا على دفع نفقات خمسمئة فارس صليبي لمدة عامين سنة ( 1259م ) ، وأودع ملك إنجلترا لديهم جواهر التاج البريطاني .
ونعيد لنؤكد أن أساس عمل البنوك هو الربا في صور متجددة مع الزمن تبتدعها عقول دهاقنة الاستغلال في الأرض ، وتزخرفها بطلاء يكاد يخفي الجريمة عن بعض الناس إلا الذين اعتصموا بالله وبالكتاب والسنة ، وردَّوا إليها جميع القضايا صغيرها وكبيرها ، كلٌّ في حدود وسع ومسؤوليته .
ومن يدرس تاريخ البنوك وأساليبها ووسائلها ، ثمّ يردّ ذلك إلى منهاج الله ، إلى نهج التحليل والتحريم ، يجد أن الحرام واضح جليّ ، ومن حاول أن يغمض عينيه قليلاً فسيرى أن هنالك شبهة على الأقل ، نُهينا نصّاً أن نقع فيها .
نلاحظ من هذا العرض السريع أن الصراع دائم بين المصالح المتضاربة ، وأن المصالح والنفوذ والسلطات تميل إلى دعم المجرمين طالبي الرِّبا . وكان اليهود منذ زمن بعيد وراء السعي إلى الحصول على تسهيلات تبيح الربا ، وكذلك غير اليهود الذين يتعاونون معهم في جبهة واحدة .
ولم يكن النظام المصرفي الإسلامي معروفاً من قبل ضمن النظام المالي العالمي ، لكنه أثار الانتباه بعد أن بدا منافساً للنظام المصرفي الغربي بتحقيقه معدل نمو سنوي تراوح بين 10 إلى 15% . لقد وضع الإسلام الأسس الكفيلة لقيام نظام اقتصادي غير ربويّ يُحقِّق مصلحة الناس في واقعهم المادي في الحياة الدنيا ، ويعين على نجاتهم في الدار الأخرى . لا نستطيع أن نطرق جميع الأسس الاقتصادية في الإسلام ، ولكننا نورد هنا الآيات المتعلقة بالربا : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) [ البقرة ] وعن عبد الله بن مسعود عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : ” لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ” ([4]) إن هذا التحريم للربا هو أشدّ أنواع التحريم التي وردت في كتاب الله . وتأكِّد التحريم في آيات أخرى ، وكذلك في الأحاديث النبوية ، نذكر منها هنا حديثين شريفين : فعن ابن مسعود عن النبيصلى الله عليه وسلمأنه قال : ” لعن الله الربا ، وآكله ، وموكله وكاتبه ، وشاهده وهم يعلمون ، والواصلة ، والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، والنامصة والمنمصّة ” ([5]) وكذلك في خطبة الرسولصلى الله عليه وسلمفي حجة الوداع ، حيث قال : ” ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تَظِلمون . وأول ربا موضوع هو ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله “ [ رواه ابن أبي حاتم ] ([6]) ولم يكن تحريم الربا في رسالة محمدصلى الله عليه وسلمفقط ، وإنما كان التحريم في الإسلام في رسالة جميع الأنبياء ، وخاصة في رسالة موسى ، ورسالة عيسى عليهما السلام ، حيث أشار القرآن إلى ذلك : ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)[ النساء ]
إن هذا التحريم للربـا وامتداد التحريم قروناً طويلة جداً مع الأنبياء والرسل ، لدليل واضح على شدة خطورة الربا وشدة إفساده في الحياة البشرية ، وفساد النظام الاقتصادي القائم على الربا . لقد مارس المسلمون أيام النبوة الخاتمة ، وما تلاها عن عصور ، نظاماً اقتصادياً خالياً من الربا في واقعهم البشري . والمسلمون مكلفون بممارسة نفس النظام بقواعده العامة في كل واقع جديد ، على أن يضعوا تفصيلات النظام من منهاج ومن حاجة الواقع الجديد الذي يُفَهَم من خلال منهاج الله . والربا هو صورة من صور أكل أموال الناس بالباطل . فالتحريم من حيث الأساس هو تحريم لأكل أموال الناس بالباطل في جميع صوره وأشكاله .
والنظام الرأسمالـي والشيوعي صورتان مفزعتان لأكل أموال الناس بالباطل . فقد دخلـت إنجلترا الهند متسللة بالحركات التنصيرية والشركات التجارية ، ثم احتلتها عسكرياً . فنهبت الهند وكنوزها وخيراتها وشعبها ، وما خرجت من الهند إلا وقد تركت الشعب فقيراً ممزّقاً ، والبلاد متأخرة متخلفة . وقس على ذلك سائر الدول الرأسمالية التي دخلت أقطار العالم الإسلامي الغنيّة في ثرواتها وخيراتها ، فما تركتها إلا وهي فقيرة ممزّقة متخلفة . لقد أكلت الدول الرأسمالية أموال العالم الإسلامي بالباطل أكلاً حراماً ، وأنشأت النظام الرأسمالي فيه على نفس الأُسس من الظلم والعدوان ونهب الثروات وأكل المال الحرام ، حتى أصبح العالم الإسلامي يسمىّ العالم الثالث المتخلف . ولم يأكل العالم الرأسمالي أموال العالم الإسلامي وحده بالباطل ، بل أكل أموال شعوبه بالباطـل أيضاً ، حتى تكوّنت طبقات على أُسس غير عادلة ولا أمينة ، وحتى كثرت البطالة وتوالت الأزمات الاقتصادية ، وتنافست الدول الرأسمالية في صراع محموم من أجل أكل الأموال بالباطل . وأقامت هذه الدول الرأسمالية مؤسساتها على نفس الأسس من أكل المال بالباطل ، مهما اختلفت أسماءها وأشكالها وأنظمتها .
وقد وصف القرآن الكريم لنا هذا النشاط المالي الحرام يقوم به كثير من الأحبار والرهبان وصفاً جلياً : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة ] وهكذا بيّن الله سبحانه وتعالى أساس التعامل الحرام بالمال . إنه أكل أموال الناس بالباطل ، والربا باب من أبوابه ، أو أنه يجمع الأبواب كلها . وبيّن الإسلام أبواب الكسب الحلال وحثّ عليها ، وبيّن أبواب الكسب الحرام وما يحرم من البيوع فنهى عن ذلك كله . وارتبط أكل المال بالباطل في الآية السابقة بكنز الذهب والفضة ، وبعدم إنفاقها في سبيل الله . فجعل الإسلام للكسب الحلال شروطاً وقواعد ، وجعل للإنفاق الحقّ شروطاً وقواعد . وذلك كله لصلاح الإنسان على الأرض ، وصلاح الشعوب كلها إذا التزمت وتعاونت على ممارسة قواعد الإيمان .
فالنظام الرأسمالي ومؤسساته لا يقع المال الحرام فيه من باب واحد ، ولكن من أبواب متعددة تجمعها كلمة ” أكل أموال الناس بالباطل ” ، ” وكنز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله ” . فأصبحت المؤسسات الرأسمالية تجمع المال الحرام من ناحيتين : من أكل أموال الناس بالباطل من جميع أبوابه وسبله الحرام ، ومن الإنفاق في غير سبيل الله ، من الإنفاق على الصدّ عن سبيل الله ، والإنفاق على الفتنة والفساد والكبائر كلها ، حتى أصبح هذا النظام ومؤسساته معجوناً بالربا والحرام عجناً . ولقد غزا هذا النظام الشعوب كلها وغزا العالم الإسلامي ، يقوده علوم وتقنية ، ونظم إدارية متطورة تحميه وتحمي رجاله المتحكمين ، وهئيات ومؤسسات تعمل ليل نهار ، لتوفّر هذه العلوم والتقنية والإدارة والمؤسسات وسائل نهب الشعوب ، وسائل الكسب الحرام والإنفاق الحرام ، ويحمي هذا النظام الاقتصادي سياسة ونظام سياسي وقوة عسكرية نامية مدمرة . وكان من أهم آثار انتشار الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة ، وانتشار الفتنة والفساد والجرائم ، والحروب التي لا تكاد تتوقف ، والمؤامرات في جوف الليل ، وفي وضح النهار ، حتى ظهر الفساد في البّر والبّحر والجو . وغزا هذا كله العالم الإسلاميّ كالطوفان . والمسلمون متفرّقون متخلّفون أنهكهم الصراع بينهم حتى استفاد عدوهم من ذلك . وامتدت المؤسسات الماليّة الرأسمالية إلى العالم الإسلامي ، واضطرب المسلمون وحاروا كيف يتعاملون مع هذه المؤسسات ، وصـدرت فتاوى هنا وفتاوى هناك ، فتاوى يناقض بعضها بعضاً . وأول ملاحظة لنا على ذلك هو أنه كانت تأخذ القضية الجزئية الواحدة معزولة عن نظامها الكلي ، فلا تبدو الصورة عندئذ على حقيقتها ، ولا تبرز الجريمة في هذه الجزئية أو تلك بعد أن عُزِلت ثم زُخْرِفت بوسائل التجميل لإزالة القبح الكبير المتخفِّي . وقد لا يبدو وجه ” الحرام ” في هذه الجزئية بعد عزلها وإخفاء ارتباطها بالنظام الكلّي الذي نَبَعَت منه وحملت معها أشكالاً متعددة من الحرام ! .
ومن ناحية أُخرى ، فعند دراسة نظام الفائدة نجد أنّه نظام قائم على استغلال القوي للضعيف ، وعلى أكل أموال الناس بالباطل ، وعلى تشغيلها واستثمارها في الباطل . وكذلك ، فمن أين تأتي الفائدة ؟! تأتي الفائدة من الربح الحرام الذي يكسبه البنك في جميع أنواع استثماراته ، استثماراته التي يضع فيها خليطاً من الأموال المودعة فيه ، دون أي تفريق بين هذا وذاك إلا في السجلات ، ودون أي تفرقة بين نوع من الاستثمار وآخر .
لذلك اضطرب الرأي حول ” الفائدة ” التي تقدمها المؤسسات المالية . ولقد كان الرأي الأول أن يضع المسلم ماله فيها ” الحساب الجاري ” الذي لا تُؤخذ معه الفائدة التي تُعْتَبر حراماً ومالاً خبيثاً . وصارت القناعة لدى عامة الناس أنهم إن فعلوا ذلك تجنّبوا الحرام ، وأنَّ تعاملهم مع المؤسسة المالية أصبح حلالاً لا إثم فيه ولا معصية . وغاب عن بال هؤلاء أنه لا فرق في عمل المؤسسات المالية مع الأموال بين حساب جارٍ وحساب غير جارٍ إلا في الدفاتر أو في بعضها . أما الأموال عامة فتدخل في نشاط المؤسسة دون تفريق ، ويكون لهذا الحساب ” فائدة” ولذلك الحساب ” فائدة ” والفرق الوحيد أن ” المودع ” تَبَّرع بالفائدة عملياً للمؤسسة ويُعْتَبَرُ مال المودّع قد دخل في المعاملات التي استحقت ” الفائدة ” . فإن كانت الفائدة حراماً فقد دخل في الحرام كمن وضع ماله في حساب الفائدة ، لأن حديث الرسولصلى الله عليه وسلمجعل الإثم واللعنة على آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه . والمودِعُ شاهد على الأقل ، وإذا ادّعى الجهل فهذا جهل لا يُعِذر فيه ، لأنه أمر عام عليه أن يستوضح قبل التـورّط . وغاب عن بال هؤلاء ، أنهم اعتبروا الفائدة رباً حراماً ، فلا يكون الإثم متوقفاً على قبض الفائدة وتسلمها ، ولكن الإثم يبتدئ بالتعامل مع مؤسسة هو يعتبرها ربويّة . ورأي آخر يقول : إن أخذ ” الفائدة ” وهي رباً في نظره ومال خبيث ؟،؟ أفضل من أن يتركها للبنك . ولكن لا يُنْفقُها على نفسه وأهله ، بل يتصدق بها ، وليس له أجر على ذلك من عند الله ، لأنها مال خبيث ، وليس له إلا رأس ماله يبقي طيباً لقوله سبحانه وتعالى : ( … فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) ونعتقد أن هذا الرأي وقع في أخطاء . أولها أنه ليس لأحد من الخلق أن يطلق الأجر من عند الله أو يمنعه ، فالله وحده يجزى كما يشاء من يشاء على ميزان عادل وحكمة بالغة لا يحيط بها الناس . فلا حاجة للتدخّل في هذا الأمر . وثانياً أنه إذا كانت ” الفائدة ” رباً ومالاً حراماً خبيثاً فلا يعني هذا أن رأس المال يظلّ على طهارته ، ولا يعني أن للناس رؤوس أموالهم حلالاً ، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى اشترط في نصّ القرآن لجواز أخذ رأس المال الذي يعمل في الربا ، اشترط أن يتوقف التعامل بالربا فوراً ، وأن يتوب المسلم توبة صادقة فلا يعود إلى الربا . فقد جاء النصّ في القرآن الكريم ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) . فالشرط هنا ” وَإِنْ تُبْتُمْ ” ، أي إذا توّقفتم عن التعامل بالربا . أما إذا كان المال مستمراً في تعامله بالربا ، ولم تقع التوبة ، فإن رأس المال لا يكون طاهراً ، وقد عُجِن بالربا عجناً واستمَّر فيه .
والخطر من مثل هذا الرأي هو أن الناس تُقبل على التعامل مع مؤسسة يرون هم أنها ربوية ، ويظنّون أنهم بسلوكهم هذا قد حَلّ لهم التعامل مع المؤسسة الربويَّة . ثم يعتاد الناس ذلك ويألفونه ، ويدعمونه ويصبحون قوة له ، وتتهاون العزائم عن السعي إلى الحل الأمثل ، وتصبح هذه الآراء أقرب للتخدير منها إلى التوعية . وإن إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي البديل يفرض ممارسة منهاج الله بكامله في الواقع البشري ، ممارسة تقدّم النظام الاقتصادي الإسلامي البديل ليحلّ محل النظام الرأسمالي ، والنظام الإداري الإسلامي البديل ، والنظام الاجتماعي الإسلامي البديل ، والنظام السياسي الإسلامي البديل والعسكري الإسلامي ، وهكذا في مختلف شؤون الحياة ذلك لأنه يتعذّر تطبيق جانب من الإسلام وإهمال الجوانب الأخرى .. إن نجاح الممارسة الإيمانية لأيّ جانب من الإسلام في حياة الإنسان أو الأُمة يفرض الممارسة الإيمانية لسائر الجوانب دون إغفال أي جزء من الإسلام . إن الإسلام منهاج ربّانيّ متكامل مترابط متناسق بعمل بكل أجزائه معاً . ( … أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)[ البقرة ] ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) [ الحجر ]
إن محاولات التوفيق بين الإسلام والرسالات الأُخرى التي خرجت منها العلمانية ، أو التوفيق بين الإسلام والعلمانية ، جهود ضائعة ، خير منها أن تُبْذل الجهود لإقامة دين الله ـ الإسلام ـ في الأرض كلها ، من أجل سعادة الإنسان والشعوب كلها . في واقع الشعوب اليوم مؤسسات ربوية واضحة ، مؤسسات تخلط الربا بغيره ، فيفسد العمل كله . وتواجه الشعوب اليوم هذا النظام الاقتصادي العالمي الربوي ، النظام الذي أقامه أهل الكتاب والعلمانيون واليهود بخاصة ، والنظام العالمي يفرض بالقوة بكل وسائل نظامه الاقتصاديّ ، دون أن يكون هناك بديل يحل محله . فكانت نتيجة المواجهة الاستسلام والعجز ومحاولات البحث عن مخرج بآراء ونظريات متناقضة متضاربة ، أو ردود فعل ارتجالية ميداناً عن ميدان ، وقضية عن قضية ، فيفقد كل ميدان قوى تسانده ، وتفقد كل قضية قوى تساندها . إن بلوغ الحل الأمثل لا يمكن تحقيقه في واقعنا اليوم بين يوم وليلة . ولكنه فرض على المسلمين أن يسعوا إليه . وإن بلوغه يتطلب جهوداً واعية حقيقية ، ونهجاً وتخطيطاً ن وتعاوناً وبذلاً . ولا يستطيع الفرد المسلم أن يجابه هذا الواقع وحده . ولكن كل مسلم يستطيع أن ينهض إلى مسؤولياته التي وضعها الله في عنقه وفرضها عليه حتى تجتمع الجهود ، وتصبّ كلها في مجرى واحد ، في صراط مستقيم ! وخلال ذلك قد يجد المسلم الفرد أو الجماعة أو الأمة أنفسهم أمام واقع ، يضطرون فيه إلى التعامل مع مؤسسات ربوية ، فتصبح القضية هي التعامل تحت ضغط الضرورة ، مع الإقرار بأن التعامل حرام لا يجوز إلا للضرورة ، ومع واجب القيام بالمسؤوليات الشرعية التي أمر الله بها ، والتي تسعى بتكاليفها إلى بلوغ الحل الأمثل .
والضرورة تعتبر ضرورة آنيّة مادامت الجهود متكاتفة من أجل رفعها . والضرورة في هذه الحالة قد تأخذ عِدة أَشكال : ضرورة فردية يكون الفرد المسلم مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها بين يدي الله ، وعليه هو أن يُقدرها ويقدّر مدى أهميتها وضغطها عليه . وضرورة قانونية قطرية لا يملك الفرد المسلم دفعاً لها ، وضرورة دولية لمن يتعرّض لها . والنظام الرأسمالي اليوم ممتد في الأرض تدعمه القوى العلمانية ، وتغذية وتحميه ، وتفرضه حيناً بالقوة والقهر وحيناً بالفتنة والتضليل . وحين حرّم الإسلام أكل أموال الناس بالباطل ، وحرّم الربا ، فإنه فرض الزكاة في المال ، تؤخذ من الأغنياء وتردّ على الفقراء ، وضع نظاماً مالياً متكاملاً يكفل حق المسلم في المال والرعاية والعمل والسعي ، وبنى جيلاً مؤمناً قوّياً يحمل رسالة الله إلى الناس كافّة ، ويوفي بعهده مع الله ، وينهض للتكاليف كلها ، ليحمي نهجه ودينه . وحين يطبَّق نظام الإسلام في الكسب ، وفي الإنفاق بجميع جوانبه تطبيقاً إيمانياً في أمّة مؤمنة ، فإن مظاهر الظلم الاجتماعي تختفي إلا بمقدار ما يخالف الناس منهاج الله . ولو أن الأغنياء كانوا يؤدّون ما فرض الله عليهم من زكاة وصدقات ، لما كنت تجد في الأرض جوعى ومحتاجين ومظلومين ، فحين أعلن مؤتمر التغذية الذي عقد في روما مؤخراً أن عدد الجوعى (840) مليوناً من البشر ، فإن هذا يعني أن هنالك عدداً من المتخمين أخذوا حقوق غيرهم فأُتخموا وجاع الآخرون ، وهذا الظلم لا يقع إلا في جو عَلماني ونظام رأسمالي .
وأخيراً ، فإن هذه البنوك مؤسسات نابعة من النظام الرأسمالي الذي يقوم على النهب وأكل أموال الشعوب بالباطل وعلى الظلم والاستغلال والفتنة والفساد ونشر ذلك في الأرض كلّها . إن للبنوك الرأسمالية دوراً كبيراً في انتشار الجريمة والفاحشة والفتنة في الأرض ، والأزمات المالية بين حين وآخر . وإن الناس اليوم يعيشون في وسط هذه الفتنة . وهذه صورة موجـزة عن الاختلاف في الاقتصاد بين الإسلام وبين العلمانية ، وهذا الاختلاف يشير في الوقت نفسه إلى خلافات واسعة أخرى بين الإسلام والعلمانية . فهناك اختلاف في النظام السياسي ، فالعلمانية تبني السياسة على المصالح المادية الدنيوية وحدها ، والإسلام يضع أسساً أخرى تكفل البشرية تعاونها وتكفل حماية حقوق الشعوب كلها وتمنع الظلم والعدوان ، وترابط الدنيا بالآخرة ، وتدعو إلى إِيثار الآخرة على الدنيا ، والأخذ من الدنيا زاداً للآخرة . وينشأ خَلَلٌ آخر هام في الحياة الاجتماعية ، وتنظيم المجتمع ابتداء من حياة الفرد إلى الأسرة إلى الأُمة كلها . ونكتفي هنا بالإشارة إلى الاختلاف الأساسي ، حيث لا مجال للتفصيل هنا ، والتفصيل يحتاج إلى كتاب خاص .
ومن هذه الاختلافات كلها ينشأ اختلاف كبير بين حقوق الإنسان في العلمانية وبينها في الإسلام .
نهجان قد ميّـز الرحمنبينهمـا — نهج الضلال ونهج الحق والرشـدِ لا يجمع الله نهـج المؤمنين على — نهج الفساد ولا صدقـاً على فنـدِ
|