سببان للأزمة المالية
11 شوال 1429، وفق : 10/10/2008م
د. مهران ماهر عثمان
===============================================
الخطبة الأولى :
أما بعد؛
أيها المؤمنون :
تابع الجميع أخبار الأزمة المالية في الأيام الماضية ، ولست أريد تناول هذا الموضوع تناول المحللين الاقتصاديين ، ولكني أريد أن أسلط عليه ضوء الشرع ، أريد أن أتكلم عن سببين رئيسين لهذه الأزمة ..
السبب الأول : أكل الربا .
فتوسع المؤسسات المالية في إقراض المؤسسات العقارية وشركات المقاولات إقراضاً ربوياً مما أدى إلى هذه الأزمة..
عباد الله :
إنّ من الجرائر التي تأخذ بناصية أهلها إلى نار جهنم ، من الموبقات المهلكات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جريمة أكل الربا ..
حرمها علينا ربنا في كتابه في مواضع عديدة ، قال تعالى :} وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [البقرة:275]ٍ ، وقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [آل عمران :130] ، وقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{ [آل عمران : 278] .
وأوضح الله لنا في كتابه أن أكل الربا من صفات يهود ، قال تعالى :} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ{ [النساء: 161] .
ولا يمكن أن تكون عاقبة الربا إلا إلى قلة وزوال وضيعة ، قال تعالى :} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{ [البقرة: 276] ، مهما كثر مال الربا لا يمكن أن تحل فيه بركة أو يكون فيه خير .
وآكل الربا قد أعلن بفعله الحرب على ربه، ومن يقوى على محاربة الله رب العالمين ، قال تعالى :} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ{ .
قال ابن عباس رضي الله عنهما :” فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضَرب عنقه” [تفسير الطبري (6/25)] ، وقال قتادة رحمه الله :” أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا” [تفسير الطبري (6/25)] .
والبهرج الشيء المباح .
وآكل الربا يقوم من قبره كما أخبر ربنا :} الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{ [البقرة: 275] ، فيبعث مجنوناً يُخنق .
وكما امتلأ القرآن الكريم بالتحذير من شؤم هذه المعصية حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فأكد عليه الصلاة والسلام ما في الربا من محق البركة فقال :«ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» [ابن ماجة والحاكم ] .
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا أربعةً ، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ ، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ :«هُمْ سَوَاءٌ» .
ومن أشد الأحاديث التي نفر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجريمة قوله في معجم الطبراني الكبير:« إِيَّايَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَآكِلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ», ثُمَّ قَرَأَ: }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{ .
وأكل الربا شر من الزِّنا .. فعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» [رواه أحمد] .
بل إن أكل الربا شر من زنا المحارم عياذاً بالله ..
أما حدث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال :«الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» [رواه الحاكم] ؟!
وآكل الربا متوعد بالمسخ ، والمسخ تحويل الصورة ، فلقد ثبت عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو ، فيصبحوا قردة وخنازير ؛ باستحلالهم المحارم ، واتخاذهم القينات ، وشربهم الخمر ، وبأكلهم الربا ، ولبسهم الحرير» [رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائده] .
ومتوعد بعذاب البرزخ ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا يعذب في قبره ، ففي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم ، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة ، فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان ، فقلت : ما هذا الذي رأيته في النهر ؟ قال : آكل الربا» .
والربا هلاك في الدنيا والآخرة ..
أما الدنيا فلقول النبي صلى الله عليه وسلم :«إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [الطبراني] .
وأما في الآخرة فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات» ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال :«الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» [رواه البخاري ومسلم] .
عباد الله :
إنني أتساءل عن أولئك الذين كلما حذرهم العلماء من خطورة الربا استشهدوا بواقع الاقتصاد الغربي مدافعين عنه مغترين به، أما آن لهؤلاء أن يعلموا أنه لا خير إلا فيما شرع الله لعباده ، وأننا مهما ابتغينا الخير والعز في غيره كان الذل والضياع ، } ألا يعلم من خلق{ .
بارك الله لي ولكم …
الخطبة الثانية :
أما بعد ؛
وأما السبب الثاني فهو الظلم والبغي ..
فما قامت به أمريكا في أفغانستان والعراق والصومال والسودان وغير ذلك ، وما قامت به من دعم يهود في المجازر التي قاموا بها ضد إخواننا في فلسطين، وإيصادها لأبواب الجمعيات الخيرية التي تعنى بكفالة الأيتام ومساعدة المحتاجين والأرامل والمساكين … إلى غيرها من واوات لا حصر لها .. هل يمكن أن يمر ذلك كله بلا عقاب أو عذاب ؟ إن العدالة الإلهية تأبى ذلك ..
ولقد توقع بعضهم أن تكون هذه الأزمة بداية النهاية لأمريكا ، وأعتقد أن من السابق لأوانه الحديث عن ذلك، لكن سواء كان هذا أم لم يكن لابد لشيء أن يكون ، ما هو ؟ أنّ لكل ظالم نهاية وإن طال أمده ..
قال تعالى :} فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ{ [فصلت “15،16] .
وقال :} وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ{[هود:102] .
وقال :} وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ *وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{ [الأعراف 182، 183] .
وقال :} لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ{ [آل عمران : 196، 197] .
وقال :} وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ{ [إبراهيم :42] .
وقال :} فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{ [العنكبوت:40] .
وقال صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» [أبو داود] .
ربنا إنك آتيت أمريكا زينة في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم ، واشدد على قلوبهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، اللهم دمر اقتصادهم، اللهم أنج المسلمين من آثار هذه الأزمة وردنا إلى دينك رداً جميلاً …