مالا يمكن شراؤه بالنقود
د. جلال أمين
من أقوال الاقتصاديين الطريفة إنه إذا كان من الأشياء المكروهة أن يخضع شخص للاستغلال من شخص آخر، فإن هناك شيئاً واحداً فقط أسوأ من ذلك، وهو ألا يجد الشخص من هو مستعد لاستغلاله على الإطلاق!.
بعبارة أخرى، من السيء بالطبع أن يدفع لك شخص أقل من القيمة الحقيقية لعملك، ولكن الأسوأ منه ألا تجد شخصاً يريد أن يشترى قوة عملك أصلًا، أي أن تظل متبطلاً.
هذا القول يعبر عن جزء لا يستهان به من الحقيقة، وهو أن البطالة قد تكون أسوأ من الخضوع للاستغلال، ولكن خطر لي أنه ربما كان هناك شيء ثالث هو أصل البلاء الكامن فى هاتين الحالتين..
وهو أن يكون المرء مضطراً فى الأصل لبيع قوة عمله لغيره، من أجل الحصول على قوته وقوت عياله، سواء تعرض للاستغلال فى عملية البيع هذه أو لم يتعرض له، على أساس أن العمل الإنساني لا يجب أن يتحول إلى سلعة تباع وتشترى.
إن شيئاً كهذا هو ما قاله المفكرون الاشتراكيون على مر العصور، على اختلاف مواقفهم الفكرية الأخرى، إذ قاله الاشتراكى السويسري سيسموندس، عندما رأى أن أفضل نظام هو نظام المشروعات الاقتصادية الصغيرة، لأنها لا تتطلب من رأس المال أو أدوات الإنتاج أكثر مما يستطيع العامل نفسه تملكه..
ومن ثم يشتغل العمال لحسابهم ولا يضطرون لبيع عملهم لأحد. وقاله الاشتراكيون التعاونيون( مثل أدين البريطاني وفورييه الفرنسي) الذين رأوا أن أفضل نظام هو ذلك الذى تكون فيه ملكية المشروعات للعمال أنفسهم، أى أن يصبحوا أصحاب رأس المال وقوة العمل فى الوقت نفسه..
بينما دعا الماركسيون إلى أن تتملك الدولة نفسها وسائل الإنتاج، ومن ثم يصبح العمال أنفسهم هم الملاك باعتبار أن الدولة تمثلهم وقد استمر الاعتقاد بضرورة ملكية الدولة للمشروعات الإنتاجية، لدى كثير من الاشتراكيين التالين لماركس، مع الإصرار على أن تكون الدولة «ديمقراطية»، أى أن تمثل العمل تمثيلاً حقيقياً.
منذ نحو سبعين عاماً، ذهب كاتب نمساوي الأصل ثم أصبح أستاذاً فى جامعتي أكسفورد ولندن هو (كارل بولاني) مذهباً مماثلاً فى رفض اعتبار العمل الإنساني سلعة تباع وتشترى، فنشر كتاباً حاز شهرة واسعة بعنوان«التحول العظيم»، وكان ما يقصده بالتحول العظيم هو ما حدث لقوة العمل قبل نحو قرنين من الزمان، إذ تحولت إلى سلعة تباع وتشترى، وهو ما اعتبره بولانى تطوراً مأساوياً..
كما رأى فيه ( كما يدل العنوان الفرعي لكتابه «جذور النظام السياسي والاقتصادي الذى نعيش فيه اليوم» ( أو وقت ظهور كتابه فى سنة 1944). ومن الممكن أيضاً أن نرى نحن فيه جذور النظام الذى نعيشه اليوم، بعد أن كاد يتحول كل شيء فى حياتنا إلى سلعة تباع وتشترى.
يقر بولاني بأن البيع والشراء( وظاهرة السوق) ظاهرة قديمة بالطبع، ولكنها ظلت آلاف السنين تتم بغرض إشباع الحاجات وليس بهدف الربح، وكان التبادل يتم أساساً لتمكين المرء من الحصول على سلعة يحتاج إليها أكثر من السلعة التى يبيعها، وكانت النقود تقدم أيضاً بهذه المهمة: تسهيل التبادل من أجل إشباع الحاجات.
ثم حدث شيء مهم فى أواخر العصور الوسطى، عندما ظهر( أو كثرت أمثلة) الإنتاج من أجل الربح، واستخدام النقود لا لإشباع الحاجات بل للحصول على كمية أكبر من النقود. ومع ذلك ظل كل هذا ظاهرة نادرة حتى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، عندما ظهر نظام المصنع الكبير..
وقامت الثورة الصناعية، وهو ما يعتبره بولاني بداية «نظام السوق» ( وهو غير ظاهرة السوق القديمة التى كان يتم فيها التبادل من أجل إشباع الحاجات)، إذ أصبح الهدف من التبادل الآن هو تحقيق الربح. هذا هو ما يعتبره بولاني تحولاً مأساوياً، أدى إلى ما نعانيه الآن من شرور اقتصادية واجتماعية وسياسية.
يرمز بولاني لهذا التحول العظيم بما طرأ من تغير فى نظرتنا إلى ثلاثة أشياء رئيسية فى حياتنا: العمل، والأرض، والنقود. كان العمل ينظر إليه قبل هذا التحول على أنه نشاط يقوم به الإنسان لإشباع حاجاته هو وأسرته، ويعبر به عن نفسه، ويتعاون من خلاله مع غيره، ويستمد منه الرضا عن نفسه..
وعن حياته، فإذا بهذا العمل الإنساني يتحول إلى سلعة تباع وتشترى، فيصبح مصدراً للدخل لمن يقوم به وللربح لمن يشتريه، وينظر إليه على أنه «مشقة» أو «نفقة» من نفقات الإنتاج، يفضل تخفيضها إلى أقل قدر ممكن.
وأما الأرض، هى ليست فى الأصل إلا البيئة الطبيعية التى يتكيف معها الفرد وتساهم فى تشكيل شخصية المجتمع التى يعيش فيها، فإذا بها، مع هذا التحول العظيم، تتحول هي أيضاً إلى «عنصر من عناصر الإنتاج»، تستخدم من أجل تعظيم الأرباح، ويسمح بالاعتداء عليها وتحويلها إلى طرق ومبان كلما كان هذا ضرورياً لزيادة الربح.
وأما النقود فتحولت من أداة لتسهيل التبادل، إلى (رأس مال) لتوليد الأرباح.
كتب بولانى كل هذا منذ نحو سبعين عاماً، فما الذى يمكن أن يقال الآن؟ لقد ظهر منذ سنوات قليلة (2012) كتاب لأستاذ أميركى فى جامعة هارفارد( مايكل ساندل) بعنوان ( ما لا يمكن شراؤه بالنقود). فإذا قرأت الكتاب سوف تتبين أن المؤلف يبحث عن شيء لازال خارج نطاق البيع والشراء، فلا يكاد يجده.