مر الاقتصاد العراق بضغوط مالية حرجة مطلع العام 2020 بسبب انهيار اسعار النفط في الاسواق العالمية وانحسار الايرادات النفطية الى دون المعدلات التي تطبعت عليها الموازنات العامة في العراق. وبسبب النفقات الشاهقة للدولة العراقية، عجزت الموارد المالية المتاحة عن تامين تمويل كافي لتغطية رواتب الموظفين، مما دفع الحكومة استبدال مشروع موازنة 2020 بقانون اقتراض قوامه (15 ترليون دينار للنفقات الجارية و5 مليار دولار للنفقات الاستثمارية) منح الحكومة امكانية تمويل رواتب الموظفين وبعض النفقات الضرورية لغاية شهر سبتمبر ايلول الماضي. ونظرا لاستمرار التراجع في الايرادات النفطية، اضطرت الحكومة الى تقديم مشروع قانون اقتراض جديد (بقيمة 12 ترليون دينار) لتمويل النفقات العامة حتى نهاية العام 2020. وقد مول كلا القرضين عن طريق البنك المركزي وبشكل غير مباشر عبر خصم حوالات الخزينة، المباعة للمصارف والمعاد خصمها لدى البنك المركزي، والتي بلغت بحدود (26) ترليون دينار، مما رفع الدين الداخلي من قرابة (35) ترليون عام 2015 الى قرابة (64) ترليون عام 2020. وقد اشترط مجلس النواب تمويل العجز المالي الحكومي بالاقتراض تقديم الحكومة لبرنامج اصلاح متكامل يكون اطارا لموازنة 2021 لضمان غرس الاصلاح المالي والاقتصادي بشكل محكم في قوام الموازنة الاتحادية. وقدمت الحكومة ورقة الاصلاح (الورقة البيضاء) قبل نهاية العام 2020 الى مجلس النواب مع ضمانات باعتماد الاطر العامة للورقة بشكل تدريجي لحين تحقيق الاهداف النهائية للإصلاح والمتمثلة في تنويع الاقتصاد العراقي وتطوير القطاع الخاص وتعظيم الايرادات غير النفطية وغيرها من الاهداف الاقتصادية والاجتماعية العريضة.
موازنة 2021 وتغيير اسعار الصرف
تفجرت ازمة سعر الصرف بعد تسريب المسودة الاولية لمشروع موازنة العام 2021 واعتماد وزارة المالية سعر صرف جديد يساعد في تمويل الفجوة الضخمة بين النفقات والايرادات الحكومية. حيث دفعت الضغوط المالية التي واجهت الاقتصاد العراقي عام 2020 وزارة المالية الى رفع سعر صرف الدينار العراقي في الموازنة الاتحادية 2021 الى (1450=1$) بدلا من (1182=1$)، لأجل تعظيم الايرادات الحكومية المتأتية من تصدير النفط العراقي بقرابة (10) ترليون دينار. مع ذلك، لم تكن مبررات وزارة المالية مقنعة، ولم تناسب الارقام الواردة في الموازنة المأزق المالي الحرج الذي يمر به العراق ولا الوعود العريضة التي روجت لها الورقة البيضاء في الإصلاح المالي والاقتصادي. فقد قفزت النفقات الحكومية في مشروع موازنة 2021 بشكل شاهق لا يناسب الموارد المالية المتاحة ولا اتجاهات الضبط والترشيد المزعومة في الورقة البيضاء. اذ بلغ اجمالي النفقات العامة (164) ترليون دينار مع اجمالي ايرادات قارب (93) ترليون دينار، تٌمثل الايرادات النفطية (73) ترليون دينار والايرادات غير النفطية (20) ترليون دينار. وبذلك يكون اجمالي العجز المخطط (71) ترليون، وهو ما يشكل نسبة (43%) من اجمالي النفقات المقدرة وبزيادة قدرها (158%) عن العجز المخطط لعام 2019.
النفط وازمة سعر الصرف
مثلما ضغط انهيار اسعار النفط على سعر صرف الدينار لتحقيق هدف مالي (تعظيم الايرادات النفطية) وهدف نقدي (تقليل مبيعات الدولار والحفاظ على الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي)، ضغط تعاف الاسعار ايضا على سعر الصرف لكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس، ولأسباب سياسية في الغالب. فقد حقق العراق خلال الشهر الماضي ايرادات نفطية فاقت (5) مليار دولار وبمتوسط سعر نفط بلغ (60) دولار للبرميل، مما عظم الايرادات الحكومية وساهم في ارتفاع الاصوات المنادية بالعودة الى اسعار الصرف القديمة (1200=1$)، بعد انتفاء الحاجة الى خفض قيمة الدينار لتمويل فجوة العجز المالي الحكومي. وايضا لأجل التصدي لموجة الغلاء السعري الذي شهدته الاسواق المحلية مؤخرا، وبما يفوق نسبة التخفيض، نتيجة ضعف الرقابة الحكومية وجشع التجار والموردين عبر استغلال ارتفاع سعر الصرف في تضخيم الاسعار. وقد اصبح سعر الصرف وجبة دسمة للإعلام العراقي، خصوصا مع انتهاء العد العكسي لإقرار الموازنة وقرب الموسم الانتخابي وتزايد حمى المزايدات والتسقيط السياسي بين الكتل والاحزاب السياسية في العراق. ليولد سعر الصرف ازمة سياسية جديدة تضاف الى ازمات اقتصادية واجتماعية متراكمة واخذة بالاتساع منذ العام 2003.
تداعيات تخفيض سعر الصرف
رغم صعوبة التوقيت الذي مُررت فيه الصدمة النقدية الى الاقتصاد، فان اعادة الضغط سياسيا على البنك المركزي والحكومة لإعادة سعر صرف الى مستواه السابق، لأغراض انتخابية في العادة، يواجه عدة عقبات اهمها العقبة القانونية، اذا يرجح ان تطعن الحكومة والبنك المركزي بقرار تغيير سعر الصرف في موازنة 2021، ان تم، نظرا لان تحديد سعر الصرف من صلاحية البنك المركزي وفقا للمادة (4) من قانون البنك المركزي العراقي رقم (56) المعدل، والتي تنص على المسؤولية الحصرية للبنك المركزي في صياغة وتنفيذ السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف في العراق. وقد حكمت المحكمة الاتحادية عام 2015 لصالح البنك المركزي في الطعن المقدم من قبل الاخير ضد قرار البرلمان بإضافة المادة (50) الى موازنة العام 2015، والتي تلزم البنك المركزي بتحديد سقف مبيعات البنك من الدولار بما لا يتجاوز (75) مليون دولار يوميا.
من جانب اخر فان تغيير سعر الصرف مرة ثانية، وبضغوط سياسية، يضعف من استقلالية البنك المركزي وبالتالي يفقد الثقة بالسياسة النقدية في العراق وما لذلك من تداعيات سلبية على مناخ الاعمال في البلد. كما ان اعادة سعر الصرف الى مستواه السابق لا يضمن عودة مستويات الاسعار الى معدلاتها الاولية نظرا لعدم مرونة الاسعار صوب الانخفاض وخصوصا في الاقتصاد العراقي.
وما يزيد الامر خطورة ادخال اسعار الصرف في دورة اسعار النفط العالمية، اذ ان رفع وخفض سعر الصرف استجابة لانخفاض وارتفاع اسعار النفط في الاسواق العالمية يزيد من تبعية الاقتصاد العراقي للمورد النفطي ويضاعف من فرص تسلل الصدمات الخارجية الى البلد عبر القنوات المالية (الموازنة العامة) والقنوات النقدية (سعر الصرف)، وبالتالي تهديد الاقتصاد العراقي بصدمات اقتصادية مزدوجة (مالية ونقدية) تزيد من الاختلال الاقتصادي القائم وتربط الاستقرار المالي والاقتصادي بتقلبات اسعار النفط في المستقبل.