بقلم: جون كوكران
ستانفورد ــ تمثل عودة التضخم نقطة تحول فاصلة. لقد اصطدم الطلب بجدار العرض الحجري. الآن، تُـنـتِـج اقتصاداتنا كل ما يمكنها إنتاجه. علاوة على ذلك، من الواضح أن جذور هذا التضخم تمتد إلى سياسات مالية توسعية بدرجة مفرطة. في حين قد تتسبب صدمات العرض في رفع سعر شيء ما نسبة إلى أشياء أخرى، فإنها لا ترفع كل الأسعار والأجور معا.
سوف يكون لزاما علينا أن ننبذ قدرا كبيرا من التفكير المستند إلى التمني، بدءا بفكرة مفادها أن الحكومات قادرة على اقتراض أو طباعة القدر الذي تحتاج إليه من الأموال لحل كل مشكلة تواجهها. الآن يجب أن يأتي الإنفاق الحكومي من الإيرادات الضريبية الحالية أو من عائدات الضرائب المؤكدة في المستقبل، لدعم الاقتراض غير التضخمي.
انتهى زمن الإنفاق التحفيزي لمجرد الإنفاق التحفيزي. ويجب أن تبدأ الحكومات الإنفاق بحكمة. إن الإنفاق من أجل “خلق الوظائف” يصبح محض هراء عندما يكون هناك نقص واسع الانتشار في العمالة.
من المؤسف أن العديد من الحكومات تستجيب للتضخم بالاقتراض أو طباعة المزيد من الأموال النقدية لدعم الطاقة والإسكان ورعاية الأطفال وغير ذلك من التكاليف، أو لتوزيع المزيد من الأموال للتخفيف من وطأة التضخم ــ على سبيل المثال، من خلال العفو عن ديون الطلاب. وسوف تؤدي هذه السياسات إلى المزيد من التضخم.
يجب أن تكون البرامج الاجتماعية الموسعة والتحويلات ممولة من إيرادات ضريبية مستقرة طويلة الأجل، ضرائب لا تفرض تكاليف غير ضرورية على الاقتصاد. هذه الحقائق من شأنها أن تزيد من صعوبة استمرار صناع السياسات في تجاهل الميزانيات والمثبطات المترسخة في العديد من البرامج الاجتماعية.
لن تمر علينا عربة الإنقاذ بعد الآن. قوبِـلَـت أزمة 2008 المالية بسيل من الأموال المقترضة والمطبوعة لتحفيز الاقتصاد وإنقاذ البنوك ودائنيها. وقوبِـل الركود الذي أحدثته جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بموجة عاتية. ومرة أخرى، ذهبت الأموال الحكومية لإنقاذ الدائنين، ودعم أسعار الأصول، وتقديم المزيد من الحوافز.
نظرا لهذه السوابق، أصبح نظامنا المالي الآن على ثقة تامة من أن الحكومة ستقترض أو تطبع الأموال في حال حدوث أي أزمة في المستقبل. ولكن بمجرد نفاد الحيز المالي وبالتالي إفساح المجال للتضخم، ربما تتبخر قدرة الحكومة على منع الأزمة التالية. وعندما يفقد الناس الثقة في القدرة على سداد الأموال المقترضة، أو في أن الأموال المطبوعة ستُـمـتَـص مرة أخرى، فلن يقدموا المزيد من القروض. الواقع أن التضخم البسيط (حتى الآن) ليس سوى عينة من هذا التغير الجوهري.
والآن، حُـسِـم الجدال حول “الركود المزمن”. منذ عام 2000، انخفض النمو الطويل الأجل بمقدار النصف، وهو ما يمثل إحدى المآسي الاقتصادية الكبرى التي لم يتغن بها الشعراء في القرن الحادي والعشرين. بعد ارتفاع بمتوسط 3.6% سنويا من عام 1947 إلى عام 2000، انخفض متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (المعدل تبعا للتضخم) في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين إلى 1.8% سنويا.
تُـرى هل كان هذا التصلب حالة من “الركود المزمن” على جانب العرض، والذي كان من الواجب في ضوء استمرار انخفاض أسعار الفائدة معالجته بالاستعانة بكميات ضخمة من “التحفيز المالي”؟ أو كان هذا ناجما عن انخفاض في العرض بسبب الآثار المدمرة المترتبة على الإفراط في حماية وتنظيم الصناعات، أو مشكلات أكثر عمقا مثل تآكل الأداء التعليمي أو الافتقار إلى الإبداع؟
لقد بتنا نعلم الآن أنه العرض، وأن المزيد من التحفيز لن يؤدي إلا إلى المزيد من التضخم. إذا كنا راغبين في تحقيق النمو ــ للحد من الفقر؛ وتغطية تكاليف الصحة، وحماية البيئة، والتحويلات؛ أو لمجرد تحقيق النمو ــ فيجب أن يأتي النمو من إطلاق العنان للعرض. لا تخلو الرسوم الجمركية، وسبل الحماية الصناعية، وتشوهات سوق العمل، وفرض القيود على هجرة العاملين المهرة، وغير ذلك من السياسات المقيدة للعرض، من تكاليف مباشرة لا يمكن التعويض عنها من خلال طباعة المزيد من الأموال النقدية.
تشير عودة التضخم والحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا إلى نهاية سياسات الطاقة والمناخ التي كانت هَـدّامـة بدرجة مذهلة. كانت حكوماتنا تنتهج استراتيجية قصيرة النظر إلى حد خطير تتمثل في إيقاف عمليات تطوير الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة وأوروبا قبل أن تتوفر البدائل على نطاق واسع، وخنق الطاقة النووية، ودعم مشاريع تفتقر بشدة إلى الكفاءة (وكثيفة الاستهلاك للكربون غالبا) مثل قطار كاليفورنيا الفائق السرعة إلى لا مكان.
أصبحت حماقة هذا النهج جلية واضحة للعيان الآن. فبعد إعاقة خط أنابيب Keystone XL، والحد من التنقيب عن النفط والغاز، تتوسل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الآن إلى فنزويلا وإيران لتعويض النقص في إمدادات الطاقة. على نحو مماثل، على الرغم من ظهور التصدعات، فإن الألمان ما زالوا غير قادرين على حمل أنفسهم على السماح باستخدام الطاقة النووية أو التكسير الهيدروليكي لاستخراج الغاز الطبيعي. وتتواصل بلا هوادة الجهود الرامية إلى خنق شركات الوقود الأحفوري المحلية من خلال التنظيم المالي. على سبيل المثال، في الحادي والعشرين من مارس/آذار، عندما كان هجوم روسيا على أوكرانيا يدفع أسعار الغاز إلى الارتفاع بشكل حاد، قررت لجنة الأوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة الإعلان عن قواعد إفصاح موسعة جديدة مرتبطة بالمناخ مصممة لتثبيط الاستثمار في الوقود الأحفوري.
لسنوات عديدة، ردد القائمون على تنظيم المناخ شعارا مفاده أن شركات الوقود الأحفوري ستفلس قريبا ــ بعد أن تصبح عالقة مع “أصول جانحة” ــ بسبب هذا التنظيم، وأن هذا يبرر التدابير الرامية إلى إرغام البنوك على التوقف عن إقراض هذه الشركات. لكن الواقع يجب أن يذكر الجميع الآن بدرس من كتاب الاقتصاد 101: عندما يكون العرض مقيدا، يتجه السعر (والأرباح) إلى الارتفاع، وليس الانخفاض. الواقع أن أولئك الذين أصروا على أن تغير المناخ يُـعَـد أعظم خطر يهدد الحضارة، أو الأسواق المالية، يجب أن يعترفوا الآن بأن الأمر لا يخلو من تهديدات أخرى مرجحة في الأمد القريب، مثل الجائحة، والعدوان العسكري، والآن ربما حتى الحرب النووية.
لكن القصة لا تنتهي هنا. لا يزال المرء يسمع أحاديث تؤكد أن التضخم يأتي من سلاسل التوريد الهشة، والتلاعب الشنيع بالأسعار، والتربح، والاحتكار، والجشع. وكانت محاولة إدارة بايدن الأخيرة بإطلاق وصف “ارتفاعات أسعار بوتن” على التضخم هزلية إلى حد السخف وخاطئة بوضوح شديد. إن التضخم واسع الانتشار وكان في ارتفاع لمدة عام كامل، في حين لا يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أي شيء أكثر من بيعنا كميات كبيرة من النفط لتمويل مؤسسته العسكرية. الواقع أن هذا النوع من الاختلاق يقلل من شأن حرب هي معركة من أجل روح أوروبا وأمن العالم؛ ولا صلة لهذه الحرب بمدى انزعاج الأميركيين عند مضخات الغاز.
لقد انتهى عصر التمني. وسوف يبدو من يدركون هذه الحقيقة الآن أقل حماقة في المستقبل.
* جون كوكران، زميل أقدم في معهد هوفر
https://www.project-syndicate.org