الموازنة العامة في العراق لعام 2016 وقيد العملة الأجنبية

 

الموازنة العامة في العراق لعام 2016 وقيد العملة الأجنبية

 

أحمد إبريهي علي 
  

خصصت الموازنة 113.5 ترليون دينار للأنفاق، ما يعادل 97,3 مليار دولار، منها 83 ترليون للأنفاق الجاري و30.5 ترليون دينار للاستثمار العام. وتقدر إيراداتها 84 ترليون دينار، وبذلك يكون العجز 29.5 ترليون دينار يمول بقروض داخلية وخارجية. وبنيت الإيرادات على فرض تصدير 3.6 مليون برميل يوميا من العراق بما فيه كردستان ، وسعر النفط 45 دولار للبرميل. وهذا المقترح من مجلس الوزراء يناقش في مجلس النواب. ومن المتوقع الاهتمام بالعجز المالي للموازنة بمعنى الفارق بين النفقات المخصصة والإيرادات المتوقعة . ومن المفهوم أن سعر النفط والمصادر المذكورة في متن المقترح لتمويل العجز يكتنفها عدم التأكد بطبيعتها. ، وفيما يتعلق بالإيرادات غير النفطية فإن العراق، مجتمعا ومؤسسات، لم يتهيأ بعد لتحمل اعباء الإسهام الجاد في تمويل الموازنة العامة من الضرائب والرسوم. ولقد اصبح واضحا في دراسات سبقت ان القيد الأشد على حجم الأنفاق العام الممكن اقتصاديا هو المتاح من العملة الأجنبية. وهذا ما نتناوله في بقية السطور، وعلى اساس 40 دولار للبرميل للانطلاق من تقديرات متحفظة للموارد لإيضاح المشكلة وتسليط الضوء على محور السياسات المطلوبة لمواجهتها.
في الخامس من تشرين الثاني 2015 وصل سعر البرميل لنفط اوبك 44 دولار وللأمريكي وبرنت 46 دولار و 49 دولار على التوالي . وبذلك تقدر إيرادات النفط لموازنة العام القادم في نطاق 49 مليار دولار، للعراق عدا كردستان ، بسعر 40 دولار لبرميل النفط العراقي وصادرات 3350 ألف برميل يوميا. ومن ذلك المبلغ تدفع استحقاقات شركات النفط المستثمرة لسداد نفقات الاستثمار لتطوير الحقول واجرة الخدمة، ومدخلات التشغيل بالعملة الأجنبية من سلع وخدمات مستوردة لقطاع الاستخراج النفطي. وايضا استيرادات الحكومة للقطاعات المدنية والدفاع. وقد يكتفي القطاع العام باستخدام 29 مليار دولار لجميع تلك الأبواب. وما يبقى يقارب 20 مليار دولار تبيعه وزارة المالية إلى البنك المركزي ، بينما تقدر مبيعات المركزي للقطاع الخاص هذا العام حوالي 44 مليار دولار وقد لا تختلف في العام القادم. وبهذا تنخفض الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي بحوالي 24 مليار دولار لتعويض قصور العملة الأجنبية المستلمة من وزارة المالية عن طلب القطاع الخاص. 
وظهرت مقالات في الصحافة العراقية تنحو باللائمة على عقود الخدمة النفطية، وبأنها السبب لاقتطاع الشركات الأجنبية مبالغ ضخمة من المورد النفطي بحيث اصبح المتبقي قليلا ما عمق الازمة المالية للعراق. بل وقيل ان عقود المشاركة في الإنتاج افضل، وهو كلام بعيد عن الواقع. وتلك الكتابات والتصريحات حرضتها معلومات ناقصة لأن المتوسط الموزون لأجرة الخدمة على البرميل المنتج لعقود الجولتين الأولى والثانية هو دولار وثمانين سنتا، وهذا المبلغ خاضع لضريبة الدخل بنسبة 35 بالمائة، فضلا عن ان للعراق 25 بالمائة من الشركة التي يؤسسها عقد الخدمة لأداره الحقل المتعاقد على تطويره. ولم اطلع على عقد مشاركة في الإنتاج النفطي يعطي للشركة اقل من هذا المبلغ حتى لو اصبح سعر البرميل 20 دولارا. والمشكلة الأساسية تكمن في إدارة مقاولات مشاريع التطوير، وبأهمية اقل ضوابط مصاريف كوادر الشركات المستثمرة التي تحمل على نفقات التشغيل. والعلة ليست في عقد الخدمة لأن وزارة النفط لها الكلمة الأخيرة وهي التي تصادق على إحالة المشاريع للمقاولين. ودون مرحلة المصادقة النهائية تقر المشاريع من لجان الإدارة المشتركة، بين الجانب العراقي وشركة التشغيل التي انشأها عقد الخدمة والأخيرة تساهم فيها إحدى شركات وزارة النفط ايضا. فللعراق السيطرة التامة على مشاريع التطوير والمبالغة في التكاليف تعني ان القصور من جانبنا، وكان يجب ضمان بناء قدرات عراقية متكاملة الاختصاصات والخبرات ومتمكنة بالفعل من السيطرة التامة على اختيار التقنيات وتدقيق الأسعار ومجريات التنفيذ قبل التوسع في التطوير على جبهة عريضة. الم ينجز العراق في السبعينات مشاريع التطوير النفطي عبر التعاقد مع شركات الخدمات الفنية ، والآن يستطيع ايضا ولا يمنعه من ذلك وجود شركات الاستثمار فهي لا تحتكر القرار دونه. والمفروض ان هذه الحلقة تكون سببا في خفض التكاليف بمعرفة كيفية الانتفاع من دراية الشركات المستثمرة لا ان يحصل العكس ونلقي باللائمة على عقد الخدمة. 
نفهم مما تقدم ان العملة الاجنبية هي القيد على الأنفاق الحكومي وعلى مجمل النشاط الاقتصادي ، لأن ما يدخل العراق منها يقتصر على مورد النفط واصبح تطوير النفط يستحوذ على جزء لا يستهان به من ذلك المورد. والنتيجة ان ما يدخل العراق من العملة الأجنبية دون احتياجاته بفارق لا عن 25 مليار دولار مع التقشف. وهذا المقدار لا يستطيع العراق اقتراضه من الخارج لأن التقييم الائتماني السيادي للعراق متدني وتضاف عناصر أخرى ومنها العنف فيرتفع سعر الفائدة وتصبح تكاليف الاقتراض لا تطاق. وتباينت التوقعات حول سعر النفط في عام 2016 ، والتقرير الأحدث لمشهد الاقتصاد العالمي الذي يصدر عن صندوق النقد الدولي لا يتوقع تحسنا في سعر النفط إن لم ينخفض قليلا، بينما في آخر دراسة اعدها الصندوق عن العراق توقع سعرا للنفط يدور حول 62 دولار للبرميل عام 2016.
وفي تقارير سوق النفط ومنها التقرير الشهري الذي تنشره منظمة اوبك من المتوقع عدم زيادة عرض النفط من خارج بلدان المنظمة في العام القادم 2016، وعليه سوف ينخفض فائض النفط في السوق ويقترب الطلب على نفط اوبك من إنتاجها وتتقلص الفجوة بمقدار مؤثر وتفيد هذه الحسابات احتمال تحسن سعر النفط. ومن المهم ان تهتم السياسات المالية والنقدية بقيد العملة الأجنبية الذي يرسم الحد الأعلى الممكن لأنفاق الحكومي والنشاط الاقتصادي الكلي في السنة القادمة وربما لمدة اطول. و ليس من المعقول ان تتوسع الحكومة في الأنفاق وتحفز الاقتصاد نحو مستويات عالية من الطلب الكلي ( الاستثماري والاستهلاكي ، الخاص والعام) وهي تعلم ان جزءا مهما منه يتطلب عملة اجنبية لإشباعه بالمستوردات من السلع والخدمات. إضافة على تحويلات القطاع الخاص إلى الخارج لمختلف الأغراض والتي تتناسب مع دخله الذي يحدده الطلب الكلي آنف الذكر والمحفز بالأنفاق الحكومي.
فالأمر ليس متعلقا بإمكان او عدم إمكان تهيئة تمويل داخلي لعجز الموازنة العامة ، على اهميته، كما يفهم في الكثير من الدوائر الرسمية وهو الشائع، بل إن القيد الفعلي يتمثل في العملة الأجنبية. و تتعذر زيادة عرض العملة الأجنبية من خارج صادرات النفط الخام، على الأقل في السنتين القادمتين، والمصلحة العامة تقتضي قبول هذه الحقيقة وعدم السماح للأوهام بالتسلل إلى دوائر القرار. ومع هذا الوضع لا بد من فسح المجال لتدابير تقليص الطلب على العملة الأجنبية ان تأخذ مداها. وليس المقصود بتقليص الطلب تقليل مبيعاتها من نافذة البنك المركزي، لأن المضمون العملي لهذا الأجراء إنقاص المعروض منها في سوق الصرف دون تخفيض الطلب عليها ، ما يؤدي إلى إنعاش السوق الموازية وارتفاع سعر الدولار في السوق.
لوأمكن، فعلا، تعويض جزء مهم من نقص المورد المالي للنفط بإيرادات حقيقية من ضرائب ورسوم وما إليها لتحسن الوضع المالي كثيرا، لأن هذا التمويل ينطوي ذاتيا على عامل ٌاستقراري. فما تنفقه الحكومة زيادة على إيرادات النفط قد اقتطع من مجرى الدخل وليس زيادة عليه، اي ان الضريبة هي نقل مقدار من قدرة القطاع الخاص على الأنفاق لزيادة الأنفاق الحكومي. ولم تتوفر دلائل كافية لحد الآن على قوة التوجه نحو مصادر لتمويل الأنفاق الحكومي من غير النفط.
وقد أجرت الوزارات ووزارة المالية والتخطيط تقليصا واسعا في الأنفاق وذلك في حدود ما يسمح به الوضع القائم. اما مراجعة الأنفاق العام لتهذيبه و لتكون الموازنة العامة حقيبة ادوات صالحة لسياسة اقتصادية فعالة فقد يتطلب تغييرا جذريا في بناء واداء اجهزة الدولة المدنية والعسكرية. وهذه مهمة كبيرة تحتاج إرادة اجتماعية وسياسية وزمن. ويتحمل الاستثمار العام العبء الأكبر من خفض الأنفاق، وعندما تطول مدة العجز تتراكم الاحتياجات المؤجلة وتتفاقم مشكل البناء التحتي والخدمات العامة. 
ومما تقدم يتضح ان العراق لا يواجه صعوبات استثنائية نتيجة العجز المالي عام 2016 بل توجد فسحة للحفاظ على المستويات الضرورية من الأنفاق، بما يماثل عام 2015، مع ما تمليه زيادة الجهد العسكري والأمني والشعبي في محاربة الارهاب، ومعاناة النازحين والفقراء ، وتكاليف إعادة الأعمار بعد التحرير. لكن المباشرة بسياسة اقتصادية جديدة اصبحت مطلوبة لتنويع الاقتصاد ومصادر تمويل الموازنة بعد ضبط الأنفاق ذاته لضمان كفاءة التصرف بالموارد، وحماية الاقتصاد الوطني من مخاطر تقلبات اسعار النفط .