تنقية النظام المصرفي العراقي وتعزيز قدرته التنافسية :
ا.د.حمزة محمود شمخي
يقصد بالنظام المصرفي مجموعة من الكيانات التي تجذب الأموال من( الافراد أو القطاعات التي ولدت فائضًا ، وإعادة توجيهها إلى وكلاء اقتصاديين يعانون من عجز) وفق ٱلية منظمة ودقيقة تحددها السلطة النقدية.
وكيانات النظام المصرفي هذه تتكون من المصارف والمنتجات المصرفية المختلفة والبنك المركزي الذي يمثل السلطة النقدية، وتشكل هذه الكيانات مايعرف بهرم النظام المصرفي والذي يعد ركيزة اساسية من ركائز الاقتصاد الكلي والجزئي ونموه وتطوره في اي بلد.
لقد توسع النظام المصرفي العراقي عدديا في احد كيانته وهي المصارف وبشكل ملفت للنظر، دون ان يتطور بالمنتجات المصرفية او يتكامل بالسياسة النقدية التي تنظم عمل تلك المصارف.فقد احتل العراق المرتبة الاولى بين النظم المصرفية العربية والدولية من الناحية العددية حيث بلغ ( 81 ) مصرفًا، منها (7 ) مصارف حكومية و(74) مصرفا أهليا منها ( 24 ) مصرفا تجاريا ، و ( 29 ) مصرفا إسلاميا، إضافة الى ( 21 ) فرع لمصارف اجنبية. ويعد هذا العدد الأعلى على مستوى العالم مقارنة ببعض دول المنطقة حيث بلغ( عدد المصارف في تركيا (43)، ومصر (41)، والسعودية (31)، وايران (30)، والأردن (26)، والجزائر (20).. فيما بلغ عدد المصارف المسجلة في دولة اقتصادية كبرى مثل بريطانيا (54) مصرفا فقط).
ورغم هذا العدد الكبير من المصارف في العراق الا انها لم تلعب دورها التمويلي المطلوب ولم تقدم ما يجب ان تقدمه من أنشطة مصرفية ومنتجات مصرفية حديثة لها القدرة في تعبئة الكتلة النقدية الهائلة في العراق لتمويل الاقتصاد الوطني وتمويل التنمية.
و تشير بيانات البنك المركزي الى ان الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي تتجاوز (84) تريليون دينار من قيمة الكتلة والتي تقدر( 87) تريليون مما يؤكد ضعف النظام المصرفي العراقي في تعبئة هذه الاموال الهائلة وتعكس مساهمتة غير الاقتصادية في خلق ما يعرف بالتسرب النقدي في الاقتصاد العراقي.
والتسرب النقدي Cash Leakage هو (وجود نسبة كبيرة من حجم الكتلة النقدية المطبوعة لدى المواطنين خارج النظام المصرفي).وقد ساهمت عملية( الانفتاح غير المنضبط بعد عام 2003 والذي تسبب في انتشار الفساد وارتفاع معدلات البطالة والفقر وما سببته من ظهور اقتصاد خفي يمارس انشطته بعيدا عن انظار السلطة النقدية وضعف مؤشرات الشمول المالي)، اضافة الى (انعدام ثقة المواطنين في المصارف، والذي يعد كونه إرثًا اجتماعيًا قوامه الدفع والتسديد والتسلم نقدًا) ،هذه العوامل ساهمت بشكل كبير في تفاقم ظاهرة التسرب النقدي خارج القطاع المصرفي .
وتقيما للنشاط المصرفي التجاري الذي تنظمة تعليمات السلطة النقدية، تشير احدى الدراسات الى أن (مقدار الفائدة التي تفرضها المصارف على القروض الممنوحة للمواطنين هي الأعلى في المنطقة اذ تبلغ اكثر من 6% وبفائدة متراكمة ما يعني ان المواطن يدفع فائدة إضافية تصل الى نصف مقدار المبلغ المقترض، فيما تدفع نسبة اقل تصل الى 2-3% للمبالغ المودعة) مما يعكس ضعف السياسة النقدية وضعف القطاع المصرفي التجاري ومحدودوة قدرته على دعم الوساطة المالية، وتركيزه نحو تعظيم الارباح من نشاطات غير مصرفية وهي المتاجرة بالدولار بعد شراءه من نافذة العملة من البنك المركزي.
وفي تقرير للبنك الدولي صدر في تموز 2023 تحت عنوان(Iraqi Economic Monitor)
يؤكد فيه ان الوصول المالي في العراق من بين ادنى المعدلات في العالم حيث يمتلك 19% فقط من البالغين حساب مصرفي مما يسلط الضوء على مصدر تمويل كبير غير مستغل.
كما ويشير تقرير البنك الدولي الى ان (نقص التمويل يمثل اكبر القيود التي تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات العاملة في القطاع غير الرسمي مما يضعف النمو الذي يقوده القطاع الخاص ويرجع ذلك الى هيكل وعمليات القطاع المصرفي القديمة) وغير المواكبة للتطورات الاقتصادية.
ويشير التقرير أيضا ان التحديث العاجل لبنية النظام المصرفي والتي تشكل حاليا حواجز رئيسة امام التنويع الاقتصادي شرط مهم لتعزيز القطاع الخاص وخلق فرص العمل،وتطوير النظام المصرفي والمالي في العراق.
لقد اتهم النظام المصرفي بضعف نشاطه المصرفي وتركيزه على عملية غسيل الاموال وتهريب العملة والمساهمة في ظاهرة الفساد المالي في الاقتصاد العراقي وبشكل غير مسبوق،وهذه الصفة لازمت النظام المصرفي بشكل عام والمصارف الاهلية بشكل خاص منذ قيام البنك المركزي ببيع الدولار لهذه المصارف ضمن مايعرف بنافذه العملة، والتي مكنت بعض الدكاكين المصرفية الصغيرة من التمادي في عملية تهريب العملة وغسيل الاموال وبسبب ذلك حققت ارباح هائلة لا يمكن تحقيقها من العمليات المصرفية التقليدية ،الامر الذي جعلها تبتعد عن تطوير انشطتها ومنتجاتها المصرفية.
وامام هذا الاتهام كان النظام المصرفي محط انظار السلطات الفيدرالية كوزارة الخزانة الامريكية والبنك الفدرالي الامريكي، ولهذا أصدرت هذه السلطات يوم الأربعاء 2023/7/19، عقوبات على 14 مصرفاً أهليا وقبلها على عدد من المصارف ،وجاءت هذه الخطوة بعد الكشف عن معلومات تفيد بأن البنوك ( 14) متورطة في عمليات غسيل أموال وتهريبها ومعاملات احتيالية تم متابعتها منذ عام 2022.
ان تلك العقوبات فهمت على انها عقوبات على البنك المركزي والنظام المصرفي العراقي، وهي في الحقيقة عملية ضبط وتحسين وضع البنك المركزي والمصارف العراقية للامتثال الدولي لأنظمة غسيل الاموال ومكافحة تمويل الارهاب Anti-Money Laundering /Combating the Financing of Terrorism والمعروفة اختصارا AML/CFT من اجل الإلتزام بالقوانين الخاصة بالامتثال والأنظمة الدولية وقواعد( السلوك والمعايير والممارسات السليمة) وتفاعله مع الاقتصاد العالمي، وللحفاظ على موارد العراق من التهريب وغسيل الأموال غير المشروعة والعمليات الاحتياليةو(رقمنة الاقتصاد العراقي من خلال البنك المركزي).
ان البنك المركزي امام مهمة كبيرة في خلق نظام مصرفي يخضع للامتثال الدولي ويتسم بالرصانة المصرفية ويؤدي دوره الفاعل في الاقتصاد من خلال تعبئة المدخرات وتمويل التنمية بعيدا عن الاتجار بالعملة والاتهام المسند اليه بتهريب وغسيل الاموال والتحايل المصرفي.
وفي خطوة تنظيمية وملزمة للامتثال الدولي والمحلي وجه البنك المركزي المصارف المجازة بتعليمات ملزمة بزيادة رؤوس أموالها.
وجاء في كتاب رسمي للبنك انه(استناداً الى قرار مجلس إدارة البنك المركزي، تقرر زيادة رأس مال المصارف الى ما لا يقل عن 400 مليار دينار عراقي خلال مدة أقصاها 2024/12/31، بواقع ثلاث دفعات، على ان لا تقل كل دفعة عن 50 مليار دينار عراقي وللمصرف إجراء الزيادة بدفعة واحدة خلال مدة أقصاها 2023/12/31″.
وأضاف، أن “على المصارف زيادة رأس المال التشغيلي لفروع المصارف الأجنبية بما لا يقل عن 60% من رأس المال التشغيلي خلال مدة أقصاها 2023/12/31″، مبينا أنه “في حال عدم التزام المصارف بما ورد أعلاه تبادر بالاندماج أو تخضع للاستحواذ أو التصفية).
وهذه الخطوة مهمة بهدف (تنقية القطاع المصرفي من المؤسسات الضعيفة وتفادي المصاعب المالية أو التصفية) وحصر عملها بالانشطة المصرفية المشروعة وتمكينها من تمويل الاقتصاد وقطاعاته المختلفة ، فالاندماج سوف يمكن المصارف من متانة راس المال والذي يلعب دورا مهما في المحافظة على( سلامة ومتانة وضع المصارف وسلامة الأنظمة المصرفية بشكل عام، إذ انه يمثل الجدار أو الحاجز الذي يمنع أي خسائر غير متوقعة يمكن أن يتعرض لها المصرف من أن تطال أموال المودعين، فالمصارف بشكل عام تعمل في بيئة تكتنفها درجة عالية من عدم التأكد الأمر الذي ينشأ عنه تعريضها لمخاطر عدة).
ونظرا لعدم تمكن المصارف الاهلية المجازة من تحقيق هذه الامتثال لوحدهم وبسبب ضخامة راس المال المقرر ،فانها سوف تضطر الى الاندماج فيما بينها، وبهذا الاندماج سوف نكون امام نظام مصرفي نقي ومحدد بعدد مقبول من المصارف وذات ضخامة في راس المال وقدرة تنافسية عالية،وسوف يمكن الاستفادة (من وفورات الحجم الكبير وغيرها من المميزات التي تتحقق حال الدمج أو الاستحواذ المصرفي)وسوف تنهض المصارف التجارية بممارسة اعمالها المصرفية بكفاءة وايضا المصارف الاسلامية تنشط بممارسة العمليات المصرفية الاسلامية والترويج لتلك الاعمال من خلال تقديم منتجات مصرفية جديدة تتمكن من خلالها التعبئة الفعالة للودائع وتمويل الاقتصاد .
علما ان الاندماج المصرفي والاستحواذ قد شكل (توجهًّا عالميًّا ابتداء من ثمانينيَّات القرن الماضي بهدف النمو والتوسع وتعزيز القدرة التنافسيّة) للمصارف ،وايضا كمبرر في ظل وجود عوامل مساعدة أخرى مثل (الرقمنة ومخاوف الربحية المنخفضة والدفع نحو التمويل المستدام والأرباح الصعبة وقضايا جودة الأصول والتدخل التنظيمي) والتي ظهرت كمتغيرات اقتصادية بعدما اصاب الاقتصاد العالمي من تردي بعد جائحة كورونا.