الإحصاء إنجاز علمي ……أم آلية تضليل ؟

 

الإحصاء إنجاز علمي ……أم آلية تضليل ؟

بقلم : د. هناء الليث

بات الرقم الإحصائي رقماً تنموياً في كافة الخطط والاستراتيجيات التي تتبعها الحكومات  ،  إلا أنه في البحث العلمي مازال يثير كثيراً من الأسئلة حول مدى سلامة الرقم الإحصائي ،  والأسس العلمية في تحديده .  وتبدو هذه الأسئلة مشروعة في ظل ضعف القدرات الإحصائية ،  والحقيقة أن  علم وقوانين الإحصاء  المعتمدة في البحوث  لجميع المجالات ، هي المتفردة بتحديد الرقم الإحصائي الدال على النتائج  البحثية  ،  دون نكران الضعف الناتج عن أسباب موضوعية وذاتية للقائمين على تطبيق تلك الآليات والقوانين .

فالوعي الإحصائي  لم يتأصل بعد كوعي تنموي للإحصائيين ،  مع أنه برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات عديدة على اعتماده واستخدامه ومحاولة التدقيق فيه ، وهذا ما لا تنكره جميع ميادين البحوث في العالم ، فمثلاً اعترف الميدان التربوي ، الذي مارس الإحصاء التربوي  في البحوث التربوية بعدم دقة النتائج ،  وتناقضها عند إعادة تطبيقها في بعض الأحيان ؛ حيث تشير نتائج دراسات أجريت لحصر المتشابهات والمتناقضات في بعد معين إلى وجود فجوات رقمية بين نتائج تلك البحوث أدت إلى نفي أحدها الأخرى ، ومازالت هناك جوانب ضعف مهمة في البيانات الإحصائية من حيث التغطية والاتساق والنظام والتحديث.‏

وعلم الإحصاء كما ذكره أحد رؤساء وزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر بأنه علم  بائس لقصر اهتمامه على إعداد الرقم . وأضاف بأن هناك أكاذيب بيضاء  وأكاذيب سوداء ،  ولكن أهم كذبة بيضاء هي علم الإحصاء.‏  قد يكون هذا الموقف ساخراً ولكن هذا ما قيل ولم ينس جورج برناردشو الفيلسوف الإيرلندي من أن يسخر من الاقتصاديين والإحصائيين ،  فإذاً الرقم الذي يعد هو رقم ذو قيمة نسبية وليست مطلقة ، فلا يوجد للرقم الإحصائي قيمة مطلقة ، حيث أنه يؤخذ من نتاج عملية رياضية حسابية توصلنا إلى رقم، وهذا الرقم بحكم كونه نتيجة العملية الحسابية هو خاضع للمعطيات والافتراضات التي جرى احتساب الرقم استناداً لها ، وبالتالي فإن الرقم الإحصائي يجب أن يؤخذ كمؤشر وليس كقيمة مطلقة.‏

وحول الرقم الإحصائي للبحوث والدراسات  ومدى دقتها  نجد إن هناك واقع موضوعي ،  والباحثين يهتمون بإبراز نتائجهم البحثية ويسعون لتكييف الواقع الموضوعي ليصبح منسجم مع نتائجهم البحثية سواء من حيث إبراز الأرقام المناسبة أو استخدام العبارات والكلمات المناسبة ، ولهذا نرى تبايناً في هذه الأرقام نظراً لاختلاف المصادر التي يستند إليها كل متحدث برقم إحصائي.‏

ونرى إن الباحثين العاملين في مجالاته المختلفة  ،  يهتمون عادة بالوصول إلى الأرقام الحقيقية التي تعكس واقع الأمور وتوصف الظواهر وتحدد أبعادها ، لذا هم الوحيدون الذين يهتمون بتباين الحقيقة المطلقة كما هي ،  ولما كان معظم الباحثين من حيث الواقع يعملون لصالح القطاع الخاص والعام ، لذلك فهم مضطرون لتكييف المعلومات التي يحصلون عليها بحيث تنسجم مع مصالح أرباب عملهم سواء كانوا من القطاع العام أو الخاص، فلكل مؤسسة أو شركة خاصة كما هو الحال مع مؤسسات الدولة مصالح وأسرار لا تريد للعامة الإطلاع عليها ، إذاً هناك أسرار يجب إخفاؤها عن الفضوليين والخصوم التجاريين والسياسيين، لابد دائماً من ( تكييف) الأرقام الإحصائية لتنسجم مع مصالح المتحدثين عنها أو بها.‏

فالأرقام الإحصائية ( الإحصائيات ) نتيجة للإحصاء ،  والإحصاء علم رياضي ،  لكن هذا لا ينزهُ الإحصائيات ولا يجعلها نأخذها أخذ التسليم. الإحصاء يمكن إساءة استخدامه كما يمكن إساءة استخدام الرياضيات والمعارف الأخرى لصنع الزيف خارج المنهج العلمي والمجتمع العلمي. الإحصاء علم علينا أن نحسن استخدامه لننجز به إحصائيات صحيحة نستخرج بها نتائج عن أمور كانت لا يقينية. وعلينا أن نحسن القراءة وتناول ما يصلنا من إحصائيات قد نتخذ بناء عليها قرارات في حياتنا قد تكون في مستويات مختلفة من الخطورة وقد تصنع لنا تصورات خاطئة عن الحياة وعن ما حولنا. حتى الإحصائيات الصحيحة قد تخذلها قلة الموضوعية أو قلة الخبرة وقد تتألب عليها وسائل الإعلام وتصنع منها ما تشاء. نحتاج أن نسأل من نفّد الإحصائية ومن دفع تكاليفها ومن اشتراها ونعرف أين نبحث عن الإحصائيات لنقرأها ونستوعبها. ولكي نستوعبها يجب أن نتثقف قليلا ونتعلم قليلا في الإحصاء من الموسوعات العامة على أقل تقدير، ما دمنا تحت رحمة هذه الأرقام والتقارير والنشرات والأخبار الإحصائية. العلوم والمعارف الإنسانية المعتمدة لا تبنى بالإنشاء وصياغة الكلام ولا تصنع بزيف الأرقام والنسب وحكاية القصص. إن ما يصنع ذلك هو الشك الصارم والمنهج العلمي، و لا بد أن ندرب أدمغتنا على تذوق هذا المنهج؛ أن نعودها على التفكير العلمي والشك والتفكير النقدي.

ولكن البحث العلمي ، يخدم المجال الصحي ، والتعليمي  ، والصناعي  ،  والاقتصادي  ؛  فلو اختلى من الضوابط لما تقدم العالم اليوم ، ولما توصلنا إلى ما توصلنا إليه في مجال الفضاء والذرة والطب والتكنولوجيا. فالذي يحمي نتائج البحث ، هو حيادية الباحث وموضوعيته ، والضوابط القانونية العلمية العالمية التي تخضع لها مراكز الأبحاث. فلكل نتيجة إحصائية خلفية أدت إلى وصولها ،  فإذا كانت الخلفية علمية وصحيحة فالنتيجة صحيحة  ، وإذا كانت الخلفية غير علمية وغير صحيحة فهي لن تعمل على وضع الرقم الصحيح.‏

وفي كل الأحوال أن للرقم الإحصائي أهمية بالغة ، ففي المقام الأول أنه مقياس أو مؤشر للأداء الاقتصادي فلا إحصاء ولا بحث اقتصادي دون معطيات إحصائية تستخدم أساسا في هذه العملية  ،  فمثلا الدول جميعا تحتاج إلى إحصاء السكان من أجل التخطيط السكاني ،  والصحي والتعليمي والإنتاجي والخدمي والاجتماعي والثقافي ،  والشركات العاملة في قطاع الإنتاج أو الخدمات تحتاج إلى أرقام إحصائية دقيقة وتبرمج استثماراتها وإنتاجها واستيرادها أو شرائها المحلي من المواد الأولية ، وتسويقها وتصديرها لما تنتج من سلع وخدمات ،  وأية برمجة تبنى على تقديرات وأرقام مغلوطة تفقد القرار الاقتصادي فعله وفعاليته ،  وهناك علاقة وثيقة بين المؤشر الإحصائي واستخدامه ،  قد تبدو هذه العلاقة هامة ليس إلا ،  ولكنها فائقة الأهمية وفي حالات عديدة خطيرة الأهمية  ،  فعندما يتعلق الأمر بالنمو السكاني أو في حجم الاستثمار المتحقق فعلا وعدد الوظائف المنشئة فعلا بفضله ،  والقدرة الشرائية  ،  أي التناسب بين الأجور الفعلية والأسعار الفعلية ،  فإن الاستهانة بمبدأ الدقة والأمانة في الرقم الإحصائي قد توصل إلى أضرار اقتصادية فادحة ، أو توترات اقتصادية اجتماعية خطيرة ومآزق حقيقية في إدارة الدولة للاقتصاد والمجتمع.‏

بين التقويم الموضوعي للقدرات الإحصائية للباحثين  تبرز حقيقة يتفق عليها معظم المعنيين بقضايا الإحصاء وهي: أن القدرات الإحصائية للباحثين في شتى المجالات الحياتية  تعاني الكثير من أوجه القصور والضعف والعيوب وهو ما يفسر تركيزها في السنوات الأخيرة على الإحصاء الحاسوبي. حيث أزاد الطلب من العديد من المؤسسات التكنولوجية الدولية في مجال الحاسوب  لتصميم البرامج الخاصة بالتحليل الإحصائي  المستخدمة في البحوث العلمية  والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والصحية ، والمتابعة لتقويم الوضع الإحصائي الراهن من أجل تنميته وتطويره تكنولوجياً وبشرياً.

وهو ما نتج عنه من اختراعات في مجال الحاسوب من برمجيات  التحليل الإحصائي ؛ إذ يقوم كثير من المهتمين في ميادين العلوم الاقتصادية والتربوية والعلوم الأخرى وغيرها بإجراء التحليلات الإحصائية لبياناتهم المختلفة بهدف إيجاد مقاييس النـزعة المركزية مثل الوسط الحسابي لمجموعة من البيانات وحساب مقاييس التشتت وحساب معاملات الارتباط الخ ……..  وللقيام بمثل هذه التحليلات الإحصائية بالطرق اليدوية ليس سهلا وخاصة إذا كان حجم البيانات كبيرا. وُحلت المشكلة حين ذاك باستخدام جداول الانتشار الالكترونية (EXCEL) فى التحليل الإحصائي .

في العام 1968 لم تعد هناك مشكلة مع تطور أجهزة الحاسـب وتصميم برامج خاصة مثـل :  SPSS (Statistical         Package for Social Sciences   )  للقيام بالتحليلات الإحصائية البسيطة منها والمعقدة .

فبتصميم برنامج التحليل الإحصائي ( SPSS )  يتوقع تطور القدرات الإحصائية  للباحثين ؛  فهل حقاً بات الباحث العلمي يمتلك مثل هذه المهارات الإحصائية.. ؟. كما أن ضعف اهتمام الحكومات  بعمل مراكز البحوث والدراسات بالمستوى المطلوب ،  وهناك نقص خطير في الحوافز التي تمنح للعاملين  فيها ما يؤدي بالعديد منهم كما يقول البعض إلى أن يملؤوا استماراتهم في البيوت وليس في الميدان ، وهو عيب خطير جداً، ويعني تضليل دائرة صنع القرار ووضع الخطط والدراسات في ظل معطيات إحصائية مشوشة وغير آمنة ، وهذه هي المشكلة الأكبر في المسوح الاجتماعية المتخصصة التي يقوم بها المكتب وهوا لأمر الذي نفاه بشدة مدير المكتب المركزي للإحصاء.‏

إن العيب الأساسي في تطبيق التحليل الإحصائي الحاسوبي يعود إلى ضعف تدريب المعنيين بتطبيقه في مجال البحوث المختلفة.  وقلة الإمكانات اللازمة لتوفير هذه التقنية ؛ إذ أن برامج الإحصاء الحاسوبية غالية الثمن ، قبل أن تكون  معقدة  في آليات تطبيقها بفهم ودراية . وعليه فإن الخدمات الإحصائية هي في جوهرها خدمات تنموية ويتطلب ذلك بناء وعي إحصائي عصري يقوم على بنية تحتية قوية في مجال المعلوماتية في كافة المعنيين بتطبيقه ، أي بناء البنية التحتية الإحصائية.