يمكن للذكاء الاصطناعي والروبوتات جلب فوائد هائلة للمجتمعات، ولكن يمكن أيضا استخدامهما لأغراض ضارة إذا وقعا في الأيدي الخطأ. لذلك، يجب على البشر أن يكونوا مستعدين لمواكبة التطورات في تلك المجالات واستخدامها بطريقة مسؤولة، من دون المساس بالمبادئ الأساسية لحماية الحقوق الإنسانية.
في هذا الإطار، نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة عرضا للباحثة وفاء الريحان حول كتاب “القوى الخمس التي تغير كل شيء: كيف تعمل التكنولوجيا على تشكيل مستقبلنا” للكاتب ستيف هوفمان، الرئيس التنفيذي لشركة “فوندر سبيس”، إحدى الشركات التكنولوجية الناشئة الرائدة في العالم، تطرق لأسئلة حول كيفية تشكيل التكنولوجيا لعالمنا، ومستقبل الجنس البشري، من خلال استعراضه للقوى الخمس المتمثلة في: الاتصال الجماعي، والتقارب الحيوي، وتوسع البشرية، والأتمتة العميقة، والذكاء الخارق، وتطبيقاتها المختلفة في كل قطاعات الحياة.
هذا أبرز ما جاء في كتاب رائد الأعمال الأمريكي ستيف هوفمان:
عبر التاريخ البشري، جاء الاتصال الجماعي في موجات، كل واحدة منها مثلت نقطة تحول في الحضارة الإنسانية بشكل دائم، بدءا من اللغة المحكية، تليها المكتوبة، ثم مطبعة غوتنبرغ، مرورا بـالاتصالات السلكية واللاسلكية والتلفزيون والإنترنت
في كل مرحلة من هذه المراحل كان تدفق المعلومات يتم عبر النظام البيئي الذي يدعم تلك التطورات، المتمثل في الاتصال الجماعي، كما الحال مع الخوارزميات التي لم يستطع البشر الاستفادة منها لإنشاء منتجات مثل الذكاء الاصطناعي من دون توافر البيئة المُعززة لها. ينطبق الشيء نفسه على تطبيقات مثل يوتيوب ونتفليكس، فقد كانت هناك العشرات من خدمات الفيديو عبر الإنترنت قبل ظهور شبكات النطاق الترددي العالي لكنها لم تنجح إلا مع قدوم هذه الشبكات.
مع تطور استخدام تلك التقنيات المعتمدة على التواصل الاجتماعي سيكون البشر قادرين على التواصل بطرق لم نتخيلها أبدا، وخلق عالم أكثر ثراء وديناميكية، ومن الأمثلة على ذلك:
– الواقع المعزز: الذي يجمع العالم الرقمي مع العالم المادي، فهو تجربة تفاعلية للعالم الحقيقي، واعتبر هوفمان أن الواقع المُعزز كانت له بعض البدايات الخاطئة مثل نظارات جوجل الذكية، ولكنه الآن يتقدم بوتيرة ملحوظة، فهناك ما يُقدَّر بنحو مائة مليون شخص يستخدمون تقنيات التسوق الممكّنة للواقع المعزز، وبحلول عام 2025 من المتوقع أن يصل السوق العالمي للواقع المعزز في تجارة التجزئة إلى 1.6 مليار دولار.
– أجهزة قراءة الدماغ البدائية: منها الوشم الإلكتروني، التي هي أرق من ورقة مثل ضمادة الإسعافات الأولية، ويمكن لأي شخص وضعها على بشرته، حيث تبدأ في قراءة موجات الدماغ. وهناك أيضا تقنيات أخرى تجعل قراءة الدماغ أكثر دقة، مثل الفوتونات شبه الباليستية القادرة على اختراق الجمجمة ورؤية ما يحدث داخل الدماغ.
التقارب الحيوي
يُعرّف الكاتب التقارب الحيوي بأنه القوة التي تدفع البشر إلى دمج علم الأحياء مع التكنولوجيا، حيث فك رموز اللبنات الأساسية للحياة، وإنشاء أنواع جديدة تماما من النباتات والحيوانات، وقهر الأمراض، وزيادة القدرات البشرية. فهناك العديد من التطبيقات التي يعمل عليها العلماء ومهندسو الوراثة عن طريق الاستفادة من هذا التقارب بين البيولوجيا والتكنولوجيا، منها:
– إطالة العمر: يقوم العلماء والبيولوجيون في جميع أنحاء العالم بتجربة طرق جديدة لإطالة العمر، فقامت شركة “كاليكو” التي أنشأتها جوجل بالبحث عن علاج للشيخوخة وزيادة القدرات الصحية باستخدام أحدث العلوم والتكنولوجيا.
ويرى الكاتب أن تلك الأبحاث من الممكن أن تُساهم في رفع متوسط العمر المتوقع للإنسان، عن طريق الوصول لعلاج للأمراض الخطيرة مثل السرطان، مع تسليمه أنه حتى مع القضاء على الظروف الصحية غير المرغوبة وإطالة أمد الحياة بشكل عام، إلا أن ذلك لن يمنع حدوث الوفاة الناتج عن العديد من الأسباب، يأتي على رأسها الحوادث والصراعات، وبذلك قد تتوازن الأمور في مرحلة ما.
– كريسبر: هي تقنية يمكن استخدامها لتعديل الجينات، باستخدام كريسبر يمكن للعلماء تعديل جينات معينة في نبات أو حيوان ثم ضمان انتقال هذه الجينات إلى الأجيال اللاحقة، وتُساعد تلك التقنية على إنقاذ الأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات، كما يتم تعديل الحمض النووي للكائنات الحية عن طريق جمعه لإنشاء أنواع هجينة غريبة، هذا هو بالضبط ما يفعله العلماء مع “الكيميرا” حيث يستخدم العلماء هذا المصطلح لوصف أي كائن حي يحتوي على مزيج من أنسجة مختلفة وراثيا تكونت عن طريق اندماج الأجنة المبكرة أو الطفرات أو العمليات المماثلة.
يعطي هوفمان مثالا على ذلك بالخنزير الذي تتقارب أعضاؤه مع حجم الأعضاء البشرية، فيذهب إلى أنه من خلال تعديل جينوم الخنازير لجعلها أكثر توافقا، يأمل العلماء في تكوين أعضاء هجينة لن يرفضها جهاز المناعة البشري، مع الأخذ في الاعتبار ردود الفعل حول القضايا الأخلاقية التي سيُثيرها هذا الأمر.
توسع البشرية
يعني الكاتب بتوسع البشرية أنها القوة التي تدفع البشر نحو حواف الكون المعروفة، التي ستُدخل البشر إلى عالم الكم والفضاء الخارجي، من أجل تسخير إمكاناتهم الهائلة. ومن تطبيقاتها ما يلي:
– الحوسبة الكمومية: تحاول الشركات مثل جوجل الآن بناء أقوى أجهزة الكمبيوتر التي شهدها العالم على الإطلاق، ويستطيع النظام الكمي النموذجي حساب حوالي تريليون حركة في الثانية. فباستخدام الكمبيوتر الكمومي، تمكنت جوجل من إثبات عشوائية الأرقام التي ينتجها مولد الأرقام العشوائية، كان من الممكن أن يستغرق إكمال هذا الحساب عبر أسرع كمبيوتر عملاق تقليدي في العالم 10000 عام، ولكن استغرق الأمر من الكمبيوتر الكمومي 3 دقائق و20 ثانية فقط. هذا يعني أن النظام الكمي أسرع بأكثر من 1.5 مليار مرة من الكمبيوتر العملاق الكلاسيكي عند أداء هذه المهمة. كانت تجربة جوجل علامة فارقة لأنها أظهرت التفوق الكمي، مما يعني أن الكمبيوتر الكمي يمكنه حل مشاكل لا يستطيع الكمبيوتر التقليدي حلها في إطار زمني أقل.
مجال آخر تتفوق فيه أجهزة الكمبيوتر الكمومية هو معالجة البيانات غير المهيكلة؛ حيث يتم إنشاء أكثر من 2.5 كوينتيليون بايت من البيانات كل يوم، ويتزايد هذا العدد مع قضاء المزيد من الوقت على الإنترنت وتوصيل المزيد من الأجهزة به. وتُعد معالجة كل هذه البيانات وإدراكها أمرا هائلا، وهنا يأتي دور سرعة أجهزة الكمبيوتر الكمومية، التي من الممكن قريبا أن تساعد على استخراج معلومات قابلة للتنفيذ من البيانات غير المهيكلة الموجودة حاليا في قواعد البيانات، وهو ما يكون له تأثير هائل على مجال الذكاء الاصطناعي.
يقول هوفمان إنه على الرغم من كل التقدم الذي تم إحرازه، لا يعتبر الجيل الحالي من أجهزة الكمبيوتر الكمومية ضخما فحسب، بل إنه هش للغاية. حتى الاهتزازات الصغيرة أو الموجات الكهرومغناطيسية في البيئة المحيطة يمكن أن تؤثر على المعادن فائقة التوصيل وتتسبب في فك الترابط، كما أن هذه الأجهزة ليست مناسبة أيضا لنوع العمل الذي يقوم به معظم الأشخاص على هواتفهم وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. لذا، قد يكون للحوسبة الكمومية التأثير الأكبر عندما يتعلق الأمر بالعلوم.
– بناء نظام فضائي عالمي: يقول الكاتب إن استكشاف الفضاء صناعة متنامية تضم مئات الشركات بالإضافة إلى أقوى وكالات الفضاء الحكومية في العالم، وإنه في النهاية، ستؤدي صحة النظام البيئي الفضائي بأكمله إلى نقل البشر إلى المريخ وما وراءه. فوكالة ناسا لديها بعض الأفكار عن الهندسة الوراثية لكائنات جديدة يمكنها البقاء على قيد الحياة في بيئة المريخ القاسية، واحدة أخرى من الأفكار الجاهزة لوكالة ناسا هي نقل تصنيعها إلى الفضاء، حيث يقول جيم رويتر، مدير في الوكالة: “إن تصنيع وتجميع الروبوتات في الفضاء يغيران قواعد اللعبة بشكل لا يرقى إليه الشك وقدرات أساسية لاستكشاف الفضاء في المستقبل”.
الأتمتة العميقة
يُعرف هوفمان الأتمتة العميقة بأنها القوة التي تدفع البشر إلى أتمتة جميع العمليات الأساسية لإدارة الحياة وتنميتها واستدامتها من خلال الخوارزميات، والتي ستسرع الابتكار وتخلق الثروة وتحرر البشر من الحاجة إلى العمل. ويوضح الكاتب أن الروبوتات لا تستطيع العمل من دون الخوارزميات الذكية التي تمكنها من أداء المهام المتقدمة، وبالتالي سيكون الذكاء الاصطناعي، وليس الآلات، المحرك الرئيسي للأتمتة في المضي قدما، ومن أمثلة التطورات في الأتمتة:
– المدن الذكية: تقوم دول مثل السعودية ببناء مدن ذكية بالكامل، باستخدام أحدث التقنيات لجعل المدن أكثر كفاءة وإنتاجية وبيئية، يُسمي السعوديون هذه المدينة الجديدة “نيوم”، ويريدونها أن تتفوق على وادي السيليكون كمركز للابتكار. وعلى المنوال نفسه أيضا تأتي المدينة الصينية “Xiong’an” التي من المقدر أن تكلف 580 مليار دولار للبناء، وتعتبر الحكومة الصينية أنها ستصبح مركزا تكنولوجيا جديدا.
– أتمتة الشرطة: أو شركة الشرطة التنبئية “PredPol”، التي يتم استخدامها في أكثر من أربعين وكالة تابعة للشرطة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ويعمل الذكاء الاصطناعي الخاص بها على التنبؤ بمكان وزمان حدوث جرائم معينة في مدينة ما، وصولا إلى منطقة تبلغ مساحتها 500 × 500 قدم مربعة.
تعتقد الشركة أن خوارزميات التعلم الآلي الخاصة بها يمكن أن تساعد أقسام الشرطة على تحسين استخدام الموارد وتقليل معدلات الجريمة، على جانب آخر، تستخدم الشرطة أيضا طائرات من دون طيار لرسم خرائط للمدن، ومراقبة تدفق حركة المرور، ومطاردة المشتبه فيهم، والتحقيق في مسرح الجريمة من الجو، وحتى إجراء عمليات إعادة بناء ثلاثية الأبعاد للحوادث.
– أتمتة المصانع وسلاسل التوريد: تتطلع الصين إلى الأتمتة العميقة كمستقبل لها، فمع ارتفاع الأجور، على الرغم من الكم الهائل من المصانع التي يعمل بها، تواجه الصين الكثير من الضغوط كتكاليف العمالة والطاقة. ولهذا السبب تُركز على الأتمتة لتخفيض التكلفة. على جانب آخر، تقوم الشركات الصينية العاملة في مجال سلاسل التوريد واللوجستيات باستخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة كل شيء، فتقوم شركة “نورو” (Nuro)، وهي شركة ناشئة لتوصيل الروبوتات ذاتية القيادة، بإرسال البقالة إلى منازل الناس.
الذكاء الخارق
وفقا للكاتب، فإن الذكاء الخارق هو القوة التي تدفعنا إلى تطوير أشكال جديدة من الذكاء تتجاوز بكثير القدرات البشرية، وستنتج إلى الوجود آلات واعية تدير الاقتصادات، وتندمج مع الوعي البشري. ومع تسليم بعض علماء الكمبيوتر بأن الذكاء الخارق لن يتحقق أبدا، يعتقد الكاتب أنها مسألة وقت قبل أن تتوصل البشرية إلى خوارزميات وتقنيات جديدة لتحسين ذكاء الآلة. ومن تطبيقات هذه القوة:
– اقتصادات الذكاء الاصطناعي: تلعب البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي دورا مركزيا في السيطرة على اقتصاد السوق، وتعمل شركات مثل فيسبوك وأمازون وجوجل على استخدام خوارزميات معقدة، إلى جانب كميات هائلة من البيانات، للتنبؤ بالأسواق والحصول على المعلومات عن السلع والخدمات التي يحتاجها الأفراد في جميع أنحاء العالم.
ختاما، يرى الكاتب أن هذه القوى الخمس تستعد لإعادة تشكيل الإنسانية في العقود القادمة، وتحويل مجتمعنا وحياتنا بالكامل، وأنه لا توجد طريقة للعودة إلى الأوقات الأكثر بساطة، كما لا يمكننا وقف التقدم، ولكن يمكننا توجيه وتغيير الاتجاه الذي نسير فيها