م.د سلطان جاسم النصراوي
كلية الادارة والاقتصاد – جامعة كربلاء
يواجه الاقتصاد العالمي منذ بضعه شهور ضغوطات هائلة بسبب تفشي جائحة كورونا والاثار الصحية والاقتصادية السلبية التي افرزتها، ويخوض معركة صحية واقتصادية طاحنة في سعيه للخروج منها، ولا زالت هذه الازمة مستمرة ولا يوجد افق زمني محدد لانتهائها. وقد تحولت الى ازمة إنسانية واقتصادية منقطعة النظير أربكت النظام الاقتصادي والاجتماعي، وبلا شك فقد أدت الإجراءات والقيود المفروضة الى خلق حالة من عدم اليقين والضبابية أدت الى تراجع حاد في أداء الاقتصاد العالمي.
وقد أحدثت الصدمة كساد شديد لم يشهده العالم منذ عقود، وتشير توقعات البنك الدولي في تقريره “الافاق الاقتصادية العالمية 2020” الى انكماش الاقتصاد العالمي بنحو 5.2% وهو يمثل اسوء كساد منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المتوقع ان تنكمش اقتصادات الدول المتقدمة بنحو 7%، كما وتشير التوقعات إلى أن اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية ستشهد انكماشا نسبته 2.5% هذا العام، وهو أول انكماش لها كمجموعة منذ 60 عاما على الأقل، ومن المتوقع أن ينخفض متوسط نصيب الفرد من الدخل بنسبة 3.6%، متسببا في سقوط ملايين من الناس في براثن الفقر المدقع في عام 2020.
وفي ظل هذه البيئة الاقتصادية العالمية المعقدة والصعبة تعرض القطاع الخاص والذي يٌعد القلب النابض لكثير من دول العالم لما له من أهمية في إحداث النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ومصدر رئيس لإيرادات الحكومة من خلال الضرائب والايرادات الضريبية والحد من الفقر ويمثل قناة جوهرية ورئيسة للإيرادات الى صدمة قوية وتعرضت الأعمال التجارية في جميع أنحاء العالم لضربة شديدة بسبب هذا الوباء وخلقت تحديات جسيمة.
وقد فرضت هذه الازمة تحديات جمة للقطاع الخاص لعل أبرزها تعطيل سلاسل التوريد والتي تعني ارتباط العديد من الشركات بأنظمة مترابطة بشكل وثيق، وتضخيم الالتزامات القانونية على الشركات، وتشكيل نماذج جديدة للأعمال وفق متطلبات الوضع القائم، كما أدت الجائحة الى تغيير نظام العمل بسبب الإجراءات المُتخذة مثل تقليل ساعات العمل ومنح اجازات مدفوعة الثمن …. الخ، الى جانب كل ذلك أدى تفشي الفيروس الى تغيير سلوك وتوجهات المستهلك والتحول نحو أنماط الاستهلاك والتسوق الالكتروني.
وفي خضم الازمة حاولت المؤسسات والشركات الاستجابة للأوضاع التي فرضتها تحولات عالم كورونا وكانت الاستجابة في اتجاهين، الأول يتمثل بالنمط التقليدي والذي تضمن تسريح العمال وتقديم الطلب للحصول على دعم، والثاني تتمثل بالأنماط غير التقليدية من خلال الاستفادة من الجائحة وتحويل التحديات الى مكاسب من خلال اتباع إجراءات وسياسات مكنتها من تعظيم أرباحها. وتتمثل الأنماط غير التقليدية بالآتي:
- تبادل العمالة: يقوم هذا الأسلوب على فكرة نقل الموظفين والعمال من الشركات والمؤسسات التي لديها فائض ومتوقفة عن العمل وبشكل مؤقت الى شركات ومؤسسات بحاجة الى العمال بسبب الطلب المتزايد على منتجاتها، وقد اتبعت العديد من الشركات هذا الأسلوب مثل متاجر التجزئة وسلاسل السوبر ماركت الأميركية وشركة على بابا Alibaba والامازون Amazon وكذلك شركات التجارة الالكترونية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، اتجهت شركات مثل امريكان ايرلاينز وأتلانتيك ايرلاينز الى تعديل الطائرات نقل الركاب بما يمكنها من استخدامها لنقل البضائع في خطوة تستهدف التغلب على الخسائر التشغيلية مستفيدة من انخفاض أسعار الوقود
- تنويع المنتجات: سعت بعض المؤسسات والشركات لا سيما العملاقة والكبيرة الى الاستفادة من البنية التحتية لها للتحول الى انتاج سلع ومنتجات زاد الطلب عليها بسبب الفيروس، فمثلاً قامت بعض شركات السيارات مثل جنرال موتور وغيرها الى انتاج أجهزة التنفس الصناعي وإنتاج بعض أنواع الأقنعة الطبية.
- إيجاد مصادر بديلة للدخل: سعت بعض مؤسسات القطاع الخاص الى تفادي الخسائر المترتبة على تفشي الجائحة من خلال البحث عن مصادر بديلة للدخل من اجل ديمومة واستمرارية اعمالها، مثلاً قامت بعض شركات الطيران بتقديم بطاقات سفر بأسعار منخفضة لمدة عام كامل مما يساعدها على ضمان التدفق النقدي.
الرابحون والخاسرون في حين تسبب تفشي الجائحة في تكبيد بعض المؤسسات والشركات تكاليف باهظة، وسرحت العاملين وأغلقت أبوابها، فقد نجح البعض الاخر في الاستفادة من الأوضاع والتكيف معها وحصد المكاسب عن طريق الاستجابة للتغيرات والتحولات التي انتابت المستهلكين. ويوضح الجدول الاتي اهم الشركات التي استطاعت ان تتكيف مع الازمة وتتساير مع الأوضاع التي فرضتها الجائحة، والشركات والمؤسسات التي لم تستطع التكييف مع الأوضاع لسبب او لآخر.
لقد تأثرت شركات الطيران والسياحة والرياضة وصناعة الترفيه وبعض أنواع تجارة التجزئة بشكل واضح من جراء تداعيات تفشي الجائحة، فعلى سبيل المثال بلغت خسائر قطاع الطيران (والذي يبلغ ناتجه نحو 2.7 ترليون دولار أي ما يقارب 3.6% من الناتج العالمي ويسهم بتوفير 65 مليون فرصة عمل، ويدعم حركة التجارة العالمية بنحو 6 ترليون دولار) ما يقارب 273 مليار دولار، ومن المتوقع ان يشهد قطاع النقل تحديات كبيرة بعد انتهاء ازمة كورونا بسبب انخفاض الطلب والاحجام عن السفر.
اما على صعيد قطاع الرياضة فإنها تعيش اسوء مرحلة لها بسبب التوقف وإجراءات التباعد، فعلى صعيد كرة القدم فقد توقفت اغلب الدوريات في العالم، ودوري ابطال أوروبا، وتم تأجيل يورو 2020 الى العام القادم، والاولمبياد، وبطولات اخرى وهناك مخاوف من استمرار توقف الدوريات مما يعني حرمانها من إيرادات مالية (إعلانات، تسويق، تذاكر مباريات…الخ). وتشير البيانات الى ان الدوريات الكبرى الخمس قد خسرت نحو 4.1 مليار دولار (1.2 الدوري الإنكليزي، 800-900 الدوري الاسباني، نحو 2 مليار لكلً من الدوري الألماني والإيطالي والفرنسي) بسبب توقف المباريات وتوقف إيرادات البث والاعلانات.
وبالنسبة لقطاع السياحة والذي يساهم بنحو 10.3% من الناتج العالمي، ويوفر ما يقارب 330 مليون وظيفة حول العالم، فقد تأثر هو الاخر وبشكل حاد من الازمة ومن المتوقع ان يخسر هذا القطاع نحو 400 مليار دولار وبفقد 100 مليون وظيفة.
بالمقابل، افضت الإجراءات الصحية المتبعة لمواجه تفشي الفيروس الى تغير سلوك المستهلك والتحول نحو التسوق عبر الأنترنيت، فقد حققت الشركات والمؤسسات العاملة في المنصات الالكترونية ارباحاً عالية بسبب زيادة الطلب على المنتجات والخدمات الالكترونية، فعلى سبيل المثال فقد شهدت مبيعات أدوات اللياقة البدنية رواجاً واسعاً اذ سجلت ارتفاعاً بلغ 496% لممارسة الرياضة داخل المنازل بسبب عدم قدرتهم على الذهاب الى القاعات الرياضية، في حين شهدت مبيعات أدوات التجميل زيادة بلغت نحو57%، وسجلت سلسلة متاجر جون لويس ارتفاعا كبيرا في مبيعات الأشرطة المطاطية، والسبب في ذلك يعود إلى الكمامات التي بات الناس يصنعونها بأنفسهم، ورصد موقع التسوق الإلكتروني إتسي لمبيعات التجزئة في الولايات المتحدة تحولاً دراماتيكياً شهده الطلب على تصنيع الكمامات مشيراً الى انه باع اكثر من 12 مليون كمامة بقيمة 133 مليون دولار. وقد أثبتت بعض الإحصائيات العالمية أن مستلزمات الأطفال ارتفعت بمعدل 273% والمأكولات 26% وألعاب الأطفال والألعاب الإلكترونية بنحو 93%.
وأيضا نجد أن أسهم المبيعات الخاصة بالتجارة الإلكترونية احتلت المراكز الأولى بالنسبة لتحقيق المبيعات والربح، لا سيما في مجال العناية الصحية مثل أقنعة الوجه، القفازات، والمعقمات وغيرها، فقد ارتفعت نسبة أسهم المبيعات للأقنعة بنحو 590%، وأسهم مبيعات المطهر اليدوي بما يقارب 420%، والقفازات لنحو ٪151، وصابون اليد لما يقارب 33%، ونحن نتحدث عن التجارة الإلكترونية لن ننسى عملاق التجارة الإلكترونية الأمريكية Amazonفهو الفائز الأكبر في الأزمة الصحية بحسب مواقع فرنسية وعالمية ويبحث لتوظيف 100000 موظف بدوام جزئي في جميع أنحاء العالم لمواجهة الطلب المتزايد للتسوق عبر الأنترنت.
ختاماً، بالرغم من كل الخسائر التي تكبدها ويتكبدها الاقتصاد العالمي بشكل عام والقطاع الخاص بشكل خاص بسبب تفشي الجائحة وما ترتب عليها من إجراءات يمكن القول انها افرزت بيئة جديدة للقطاع الخاص وابتكار أدوات ومداخل غير تقليدية من اجل تكييف أوضاعها وتجنب الخسائر وتوفير عوامل ديمومتها والتغلب على العراقيل التي وضعها تفشي الفيروس والإجراءات المتخذة لمواجهته.