بقلـــم د. سلطان جاسم النصراوي
كلية الادارة والاقتصاد – جامعة كبرلاء
عرف الانسان النفط منذ آلاف السنين، فقد عرفهُ انسان العراق القديم وانسان الاتحاد السوفيتي والهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وكانت معرفتهم به من خلال انسيابه فوق الأرض بشكل طبيعي. وكان الصينيون يستخرجون النفط بواسطة انابيب الخيزران، ويُقال ان اول بئر حفرت في إيران قبل 500 ق.م تقريباً. وتؤكد المصادر ان اول بئر انتاج تجاري كان في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الامريكية سنة 1859.
وفي ظل التطورات والاكتشافات والثورات الصناعية المتوالية والحاجة الى مصادر الوقود، أصبح النفط من اهم موارد الثروة الطبيعية في ارجاء المعمورة، فهو عصب الاقتصاد وسلعة استراتيجية ومادة أساسية في الصناعة ولها أثر فعال في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي وأصبح بحق اهم سلعة في القرن العشرون.
وقد لعب النفط ولا يزال دوراً مؤثراً ليس على المستوى الاقتصادي فحسب بل امتد الى معالم الخريطة السياسية والاجتماعية.
وغني عن البيان القول، ان النفط يمثل مورد رئيس للكثير من الدول، اذ تدر صناعة النفط على الحكومات إيرادات أكثر بكثير من أنواع الموارد الأخرى، وتتميز عائدات النفط على نحو استثنائي بحجمها الضخم ومواردها غير الاعتيادية في مقابل افتقارها الى الاستقرار وتقلباتها. وقد اتاحت الثروة النفطية إمكانية تحقيق فرصاً للنمو الاقتصادي والتطور والازدهار، بالمقابل أدت الثروة النفطية الى جعل بعض الدول ساحة للصراعات والاضطرابات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
وبناءً على تجارب الدول والشواهد، تباينت اراء الاقتصاديين حول النفط فالبعض يرى ان النفط نعمة ورحمة بسبب ما يوفرهُ من موارد المالية ويستشهدون بتجارب بعض الدول كالتجربة النرويجية وغيرها، والبعض يرى ان النفط نقمة ولعنة لما يسببه من مشاكل وتحديات وهو ما أُطلق عليه مفارقة الوفرة.
وتتسم أسواق النفط بكونها مختلفة هيكلياً عن باقي أسواق السلع وتتأثر بالعوامل السياسية والاجتماعية، وقد شهدت أسواق النفط العالمية تحولات كبيرة اثرت على مجمل أوضاع الاقتصاد العالمي.
بالرغم من ذلك، يبقى النفط مورد ناضب غير قابل للتجدد وسينفذ يوماً ما، وسيجد العالم نفسه بلا نفط الامر، الذي أدى الى التفكير الجدي بالتحول والبحث عن مصادر طاقة أخرى بديلة عن النفط.
مفارقة الوفرة والمرض الهولندي والاقتصاد العراقي
برزت ادبيات مفارقة الوفرة مع ظهور تناقضات واضحة في بعض الدول النفطية وبروز اختلالات هيكلية وتقهقر مؤشرات النمو والرفاه والتنمية، وقد عانت هولندا في سبعينات القرن الماضي من هذه المفارقة وقد أطلقت مجلة الايكونومست البريطانية اسم “المرض الهولندي” عليها بعد اكتشافها للنفط والغاز في بحر الشمال والاعتماد عليه بشكل شبه كامل، أذ عانت من اختلالات عديدة منها، تضخم قيمة العملة المحلية امام العملات الأجنبية، وانحسار الاستثمار في القطاعات التصديرية وتركزه في قطاع واحد فقط، وتراجع أدوار القطاعات الإنتاجية الأخرى كالزراعة والصناعة وتراجع تنافسيتها وضعف القاعدة الإنتاجية، وتقلبات في الاقتصاد الكلي والقطاع المالي، وتفشي الزبائنية الريعية التي تضعف المنظومة المؤسسية الداعمة للنمو.
وعلى غرار المرض الهولندي، يعاني الاقتصاد العراقي (بالرغم من امتلاكه ثالث أكبر احتياطي مؤكد في العالم) من اعراض مشابهة بل أكثر حدة من اعراض المرض الهولندي، فالعراق من أكثر الدول اضطراباً من الناحية الاقتصادية والسياسية وأكثر عرضة للصراعات.
فعلى الرغم من مرور أكثر من 100 عام على اكتشاف النفط في العراق، لا زال الاقتصاد العراقي دالة لتغير أسعار النفط، ولازال الريع النفطي هو المحدد الرئيس للموازنات العامة للبلد. وقد أدى ذلك الى نشوء نظام اقتصادي مشوه مصاب بلعنة الموارد وبتطرف، وقد اضحى البلد يحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الدولة الفاشلة والهشة وانعدام الديمقراطية، وأصبح أكثر توتراً واسوء حالاً وعانى من حروب داخلية ونزاعات وصراعات وتراجع في مؤشرات التنمية البشرية أدت الى وقوع العراق في فخ التخلف والفقر. وعادةً ما تُعزى هذه المآزق التنموية الى الاعتماد على مصدر واحد فقط للتمويل.
وبالرغم من كل التغيرات التي حصلت في العراق بعد عام 2003 والتحول من اقتصاد مركزي الى نظام السوق والحرية الاقتصادية والانفتاح الا ان إخفاقات الاعتماد على النفط توالت بل ازدادت حدة سواءً فيما يتعلق بوعود تحقيق الإصلاح الاقتصادي او فيما يتعلق بتوفير شروط الانتقال نحو اقتصاد متنوع ذو ملامح واضحة يقوم على قاعدة واسعة ومتنوعة من القطاعات الاقتصادية.
ولم يستطع هذا النظام المعتمد على الإيرادات النفطية في تمويل التنمية في العراق وعجزت عن تحقيق الحد الأدنى من مستلزمات بناء اقتصاد واعد وقوي، كما لم يستطع هذا الأسلوب خلق الوظائف، ولم يستطيع النهوض بالقطاعات الإنتاجية لأنه يستورد كل شيء ويقوم بتمويل الاستيرادات من إيرادات النفط، كما يعمل هذا الأسلوب على التوزيع غير العادل للثروات، ومن ثم أصبح الاقتصاد العراقي سوبر ماركت ويعمل بنظام الصفقات لا أكثر.
اجمالاً، أظهرت النتائج ان التنمية التي يقودها النفط بالعراق لم تفشل فحسب بل أدت الى ظروف اقتصادية واجتماعية أسوء مما كانت عليه سابقاً، والعراق اليوم ليس أفضل حالاً ما كان عليه قبل أربعة عقود سواء على المستوى الاقتصادي او الاجتماعي او السياسي وحتى الاجتماعي، والثروة النفطية هي من أسباب العلل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وقد أدت السياسات الاقتصادية الخاطئة وتبني خيارات تنموية غير مناسبة قادت الاقتصاد العراقي الى حلقة خبيثة من الازمات والاضطرابات انتجت اقتصاد مدمن على النفط واقتصاد كوارث.
ولا يتمثل الهدف الرئيسي لهذا المقال النيل من أهمية الريع النفطي كأداة للتمويل، ولكن للكشف عن التحديات الضخمة والاشكاليات والاخفاقات المتراكمة التي لحقت بالاقتصاد العراقي نتيجة الاعتماد على النفط كأداة وحيدة للتمويل تجاوزت حاجز الــــ 90% من إيرادات الموازنة العامة للبلد.
والشيء المؤكد ان النفط سوف ينفذ وتفيد الدراسات الى ان العالم قد وصل الى مرحلة ذروة النفط أو قد يصل قريباً ثم يبدأ بمنحى هبوطي وصولاً الى نهايته.
ما العمل الان: نحو عقد اقتصادي جديد
وعلى اية حال سواء كان النفط نعمة ام نقمة وسواءً صحت مقولة ذروة النفط ام خيال تبقى الحقيقة الثابتة ان النفط مورد ناضب وسينتهي في يوم ما؟ وقد يكون هذا اليوم قريب او يكون بعيد.
ومن ثمً فإننا نواجه السؤال الآتي؟؟؟
ما هي أوضاع الاقتصاد العراقي في حال وصلنا الى ذروة النفط وأصبح النفط مورد طاقي ثانوي في ظل التطورات التكنلوجية واستمرار الجهود العلمية والتكنولوجية في التحول التدريجي نحو مصادر الطاقة المتجددة.
وضمن هذا الإطار، وللإجابة على هذا السؤال ينبغي:
أولا: إعادة التفكير في دور النفط كمصدر وحيد للاقتصاد العراقي والبحث عن مصادر تمويل أخرى بعيداً عن النفط.
ثانياً: الاستفادة من دروس الازمات التي مر بها الاقتصاد العراقي سابقاً، وقد تبدو جائحة كورونا فرصة مناسبة تماماً للتفكير الجدي بعدم الاعتماد على النفط بشكل شبه كامل، وقد تبدو فرصة مناسبة لانطلاق بداية جديدة للاقتصاد العراقي انطلاقا من مبدأ “رب ضارة نافعة” او كما يقول هوغو ” الاخطار الجسيمة تحمل في طياتها شيء من الجمال”.
وفي هذا السياق، ينبغي العمل على تبني عقد اقتصادي جديد يحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد يتسم بالمرونة والشمول، عقد اقتصادي يفضي الى دولة توفر كل أسباب الرفاه الاقتصادي، عقد اقتصادي يضع الريع النفطي في خدمة بناء اقتصاد متنوع ومنتج وخفض مخاطر تقلبات أسعار النفط، عقد اقتصادي يعظم موارد الثروة الوطنية لما فيها مصلحة الأجيال الحالية والاجيال المستقبلية والانتقال من اقتصاد ودولة ريعية الى اقتصاد ودولة إنتاجية والانتقال من سلطة الريع ومحاصصة الريع الى العقلانية والكفاءة في استخدام المال العام والتوزيع العادل للدخل والثروة، عقد اقتصادي يتبنى نموذج نمو اقتصادي مولد لفرص العمل ومستدام يوظف طاقة افراد البلد انتاجاً وابداعاً واستثمار العنصر البشري ايما استثمار، عقد اقتصادي يفضي الى محاربة البطالة والفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع افراده.