بقلم د. سلطان جاسم النصراوي
كلية الادارة والاقتصاد – جامعة كربلاء
تعكس بنية الاقتصاد العالمي وجود مشكلات كثيرة، فإلى جانب تواتر الازمات المالية والبطالة والتضخم برز خلال العقود القليلة الماضية تحدياً جديداً متمثلاً بظاهرة التغيرات المناخية والتي ما برحت تزداد خطورة يوم بعد يوم مسببة انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي بشكل عام وعلى اقتصاديات الدول النامية بشكل خاص.
وثمة تأكيد على إن تغير المناخ يشكل تهديداً حقيقياً للتنمية والنمو الاقتصادي، فالتعرض للصدمات المناخية مثل (ارتفاع درجات الحرارة، زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكاربون في الجو، تحمض البحار…. الخ) يؤدي الى عرقلة النشاط الاقتصادي، ويهدد حياة الملايين من الناس، ويعيق جهود مكافحة الفقر.
فالصدمات المناخية هي عملية ديناميكية تتغير بمرور الوقت مما يستدعي التصدي لها والتخفيف والتكيف معها، فعُقدت المؤتمرات والندوات وبدأت تتصدر اعمال القمم السياسية والاقتصادية من أجل مواجهتها ووضع الحلول المناسبة لها.
ويشهد الاقتصاد العالمي زخماً واضحاً في مأسسة وتأطير الاقتصاد الأخضر وتوفير الدعم التقني والتمويلي في مجالاته مثل (الشراكة من اجل العمل بشأن الاقتصاد الأخضر PAGE) ، ومنتدى المعرفة حول النمو الأخضر GGKP والمبادرة العالمية حول الممارسات المثلى في مجال النمو الأخضرGGBP ، والشراكة العالمية حول استراتيجيات التنمية قليلة الانبعاثات، ومعهد النمو الأخضر، الى جانب المؤسسات المالية الدولية وصناديق التمويل التي تدعم الاقتصاد المراعي للبيئة.
وفي هذا السياق، انبرت المؤسسات المالية الدولية والبنوك المتعددة الأطراف لمواجهة هذا التهديد الخطير من خلال توفير الموارد المالية لدعم المشاريع المراعية للظروف المناخية، عبر ابتكار منتجات وأدوات مالية جديدة، وتم اصدار السندات الخضراء Green Bonds كآلية حديثة للتمويل الأخضر للتخفيف من آثار هذه الظاهرة والتكيف معها، وتمويل المشاريع المتصلة بالبيئة والمراعية للمناخ، وأصبحت هذه السندات تحظى باهتمام متزايد من المؤسسات المالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنوك المتعددة الأطراف ومؤسسة التمويل الدولية…. الخ.
والسندات الخضراء هي صكوك استدانة تُصدر لتعبئة الأموال خصيصاً لمساندة مشروعات متصلة بالمناخ والبيئة، وهذا الاستخدام للأموال التي تتم تعبئتها لمساندة مشروعات معينة هو الذي يميزها عن السندات التقليدية، ولذلك فإنه فضلاً عن تقييم الخصائص المالية المعيارية (مثل أجل الاستحقاق، وقسيمة الأرباح والسعر والتصنيف الائتماني لمصدر السندات، يقوم المستثمر بتقييم الأهداف البيئية للمشروعات). وتسمى السندات الخضراء بذلك لإن عوائدها تستخدم لتمويل المشاريع الخضراء مثل مشاريع الطاقة النظيفة، الطاقة المتجددة، كفاءة الطاقة، منع التلوث ومكافحته، وإدارة مستدامة للمياه والصرف الصحي والمباني الخضراء ومشاريع النقل التي تقلل من الانبعاثات.
وعلى عكس السندات التقليدية، فإن إصدارات السندات الخضراء تتضمن هيئة تدقيق تضمن استخدام العائدات بشكل مناسب، وتضيف وظيفة التدقيق هذه إلى تكلفة الإصدار، التي تثير قلق المقترضين الذين يحاولون تأمين تمويل السندات الخضراء بسعر تنافسي مع السندات التقليدية وتلعب هيئات وضع المعايير والمبادئ مثل (مبادرة سندات المناخ، ومبادئ السندات الخضراء) دوراً رئيساً في تحديد معايير السندات الخضراء.
ويمكن تصنيف الجهات الفاعلة الرئيسية في سوق السندات الخضراء كمصدرين ومراجعين خارجيين ووسطاء سوق (مثل البورصات) كما يلعب المجتمع المدني ومجموعات أصحاب المصلحة وصانعي السياسات، التي تدعم الشفافية والكشف عن المعلومات دوراً هاماً في تطوير السندات الخضراء.
البداية من البنك الدولي
قبل عشرة أعوام، وبخشية أن يُسبِّب تغير المناخ خطراً كبيراً على محافظهم الاستثمارية، قامت مجموعة من صناديق معاشات التقاعد السويدية من خلال بنك ASB بالبحث عن فرص تتيح مساندة حلول غير ضارة بالمناخ وأرادوا الحصول على أدوات عالية الجودة وتتسم بمستوى عال من السيولة ولا تنطوي على مخاطر إضافية على المشروعات وأرادوا معلومات تُبين كيف ستُحقق استثماراتهم الأثر المنشود وفاتحوا البنك الدولي في هذا الشأن، وتم تصميم أداة جديدة ووُلِد السند الأخضر.
وكان هذا السند الذي أصدره البنك الدولي في 2008 مخططا لنموذج سوق السندات الخضراء اليوم، ولاقى أول سند اخضر أصدره البنك الدولي قبولاً قوياً من المستثمرين واهتماماً كبيراً من الجهات الأخرى، وساعد ذلك على زيادة الوعي بالتحديات التي ينطوي عليها تغير المناخ، واظهر إمكانية قيام المستثمرين (مؤسسات وافراد) بالاستثمار المراعي لاعتبارات المناخ دون التخلي عن العوائد المالية، وشكل ذلك الأساس لمبادئ السندات الخضراء التي قامت بإعدادها رابطة أسواق رأس المال الدولية، وسلَّط الضوء على القيمة الاجتماعية لاستثمارات الدخل الثابت.
ومنذ ذلك الحين عبأ البنك الدولي نحو 13 مليار دولار من خلال اصدار أكثر من 150 من السندات الخضراء بعشرين عملة لصالح مستثمرين من المؤسسات والافراد في كل انحاء المعمورة، وقد انضمت شركات وبنوك ودول الى قائمة الجهات المُصدرة لهذه السندات.
2- أسواق السندات الخضراء …. نمو لافت للنظر
على مدى عقد من الزمن سجلت أسواق رأس المال الخضراء نمواً هائلاً وواضحاً في ظل التوجه نحو اقتصاد منخفض الانبعاثات وصديق للبيئة، وكانت مجموعة البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية من الرواد في تطوير سوق السندات الخضراء، إذ أصدر البنك الدولي أول سند أخضر في عام 2008، وفي عام 2013 صارت مؤسسة التمويل الدولية أول مؤسسة تصدر سنداً أخضر معيارياً عالمياً بقيمة مليار دولار مساهِمةً بذلك في تحويل سوق السندات الخضراء من الأسواق المتخصصة إلى الأسواق العامة، ويتبوأ البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية مكانة رائدة في السوق كأكبر جهتي إصدار للسندات الخضراء، إذ يقومان بتعبئة الأموال اللازمة للتمويل المناخي من مجموعة متنوعة وواسعة من المستثمرين من المؤسسات والأفراد.
ففي 2007-2008 بدأت بنوك التنمية متعددة الأطراف في تطوير سوق السندات الخضراء، وفي يوليو 2007 أصدر بنك الاستثمار الأوروبي أول السندات الخضراء أُطلق عليها اسم “برنامج التوعية المناخي” بقيمة 600 مليون يورو، والتي ركزت على الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، وفي عام 2008 أطلق البنك الدولي أول السندات الخضراء بقيمة 440 مليون دولار أمريكي استجابة لطلب محدد من صناديق التقاعد الاسكندنافية، والذي يسعى إلى دعم المشروعات التي تركز على التغير المناخي، وفي عام 2010 تعاونت مؤسسة التمويل الدولية مع البنك الأوروبي وغيرها من الكيانات العامة (الحكومات والوكالات والبلديات) ليتم اصدار ما قيمته 4 مليار دولار، وحتى عام 2013 كانت عمليات صغيرة تسيطر على الإصدار، ومع ذلك، تطورت السوق وانضمت البلديات والحكومات المحلية إلى السوق مع إصدار أول مرة من إيل دو فرانس (باريس، فرنسا) في عام 2012 تليها غوتنبرغ (السويد)، ماساتشوستس (الولايات المتحدة الأمريكية)، ولاية كاليفورنيا (الولايات المتحدة الأمريكية)، مقاطعة أونتاريو (كندا). في نهاية عام 2013، تضاعف حجم سوق السندات الخضراء ثلاثة أضعاف ليصل إلى 11 مليار دولار. ومنذ ذلك الحين استمر السوق في النمو من حيث الحجم.
في عام 2015، انضمت المزيد من الدول (والمناطق) إلى سوق السندات الخضراء، بما في ذلك البرازيل والدنمارك وإستونيا والصين والهند ولاتفيا والمكسيك، مما أسهم في تحقيق إجمالي سنوي قدره 36.6 مليار دولار، شكلت السندات الخضراء للشركات نسبة 36٪ من الإصدار وهي أعلى نسبة على الإطلاق، تليها البلديات بنسبة 15٪ والبنوك بنسبة 12٪ وكان من بين أبرز الوافدين الجدد في سوق السندات الخضراء، السندات الخضراء الصينية (البنك الزراعي الصيني بقيمة 994.5 مليون دولار أمريكي)، والسندات الخضراء المكسيكية (500 مليون دولار)، والسندات الخضراء الهندية ، والسندات البرازيليّة الخضراء (500 مليون دولار)، وتم تخصيص ما يقرب من 45 ٪ من عائدات السندات الخضراء المخصصة للطاقة المتجددة، والمباني منخفضة الكربون تنوعت السندات الخضراء ذات العلامات التجارية أيضاً، كما تم اصدار سندات خضراء لتمويل مشاريع المياه والنقل والنفايات المستدامة.
وفي الهند تم اصدار سندات المناخ لأول مرة عام 2015 لاستخدامها في تمويل مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة والكتلة الاحيائية، وانتشرت بشكل سريع وقامت بعض البنوك والمؤسسات بإصدار العديد من هذه السندات، وقد الهمت وشجعت زيادة شعبية السندات الخضراء سوق الأوراق المالية وهيئة الأوراق المالية والبورصات لخلق بيئة أكثر ملائمة للسندات الخضراء، ووضعت في عام 2016 مجموعة من اللوائح والتعليمات والتنظيمات لعمل هذه السندات
وشهدت منطقة اليورو هي الأخرى تطورات كبيرة في سوق السندات الخضراء مستندة الى بنية تحتية مالية كبيرة، وشهد سوق الاتحاد الأوربي مشاركين ومستثمرين فضلاً عن دعم متزايد من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
إن سوق السندات الخضراء في الاتحاد الأوروبي متطورة بشكل عام بسبب البنية التحتية للتمويل التي تم إنشاؤها بشكل جيد، والمشاركة النشطة للمنظمات القائمة على الاتحاد الأوروبي والدعم السياسي، ومع ذلك هناك اختلافات كبيرة في تطوير سوق السندات الخضراء عبر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويرجع ذلك أساسا إلى الاختلافات في تطوير سوق السندات الوطنية وأطر السياسات. وتقود سوق الاتحاد الأوروبي للسندات الخضراء بنوك التنمية متعددة الأطراف (مثل بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير) والبلديات والشركات… الخ.
اجمالاً، وعلى الرغم من مرور أكثر من 10 عاماً على صدور اول سند، الا ان اسواق السندات الخضراء شهدت زخماً قوياً وكبيراً، إذ ارتفعت من نحو 800 مليون دولار في عام 2007 لتصل الى نحو 200 مليار دولار مع نهاية عام 2019. وعليه، فإن السندات الخضراء ومن خلال توفير الموارد المالية اللازمة يمكن ان تلعب دورا بارز في مواجه التحديات المناخية والتخفيف من حدتها والتكيف معها.
الخلاصة، لقد تطوَّرت أسواق رأس المال خلال السنوات العشر الماضية من سوقٍ لا يعرف المستثمرون فيه إلا القليل عن استثماراتهم، إلى سوقٍ يحظى فيها الهدف من الاستثمار بأهمية أكثر من أي وقت مضى.
ومن خلال تضمين اهداف الاستدامة في عملية صنع القرار المالي، فإننا لا نقوم فقط بتخفيض بصمتنا البيئية او عدم المساواة الاجتماعية، ولكننا أيضاً نحد من تأثير المخاطر الطويلة الأمد على استقرار الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى استقرار النظام المالي بشكل خاص.
وثمة بارقة امل تلوح في الأفق، فالتحرك المنسق وتطوير هذه الأسواق مع دخول المزيد من مستثمرين لهذه الأسواق، وزيادة التعامل بها ودعمها يمكن ان يغير النظرة الى المستقبل المشؤوم الذي تُنبأنا به التقارير والنشرات والبحوث حول التغير المناخي.
إنها ثورة في سوق السندات أطلقت شرارتها السندات الخضراء، واتسع المفهوم البسيط الذي يكمن خلف السندات الخضراء الى سندات مميزة أخرى مثل السندات الزرقاء والسندات الاجتماعية وقد تظهر في هذا الاتجاه أنواع أخرى من السندات.