د. سلطان جاسم النصراوي
كلية الإدارة والإقتصاد \ جامعة كربلاء
يمثل فيروس كورونا المستجد COVID-19 أحد الجوائح الى تحولت الى كارثة إنسانية اقتصادية عالمية، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية ان هذه الجائحة تمثل حالة طوارئ صحية عالمية، اذ تسببت في حالة من الهلع والقلق والخوف بسبب عدم توفر العلاجات اللازمة للقضاء عليه، وقد أدت الإجراءات التي اتخذتها الدول والمتمثلة بإجراءات التباعد الاجتماعي الى تكاليف اقتصادية واجتماعية باهضه الثمن، فتراجعت التجارة العالمية، وتكبدت كل القطاعات الاقتصادية خسائر فادحة.
- الجوائح عبر التاريخ:
على مر التاريخ ومنذ ان وطأ الانسان ارض المعمورة، عانى بنو البشر من انتشار الجوائح والفايروسات بسبب تحركات الانسان ونشاطاته، وقد شهدت كل العصور القديمة والحديثة انتشار الكثير من االجوائح والتي كانت لها انعكاسات مؤلمة على المجتمعات البشرية، ومع تغير سلوك الانسان وازدياد نشاطاته الزراعية والصناعية بدأت تظهر فيروسات فتاكة أودت بحياة الملايين من البشر.
وتشير منظمة الصحة العالمية الى ان انتشار الفيروسات كان موجود حتى قبل الميلاد، وقد شهد التاريخ العديد من الامراض مثل الكوليرا والحصبة والانفلونزا والطاعون والحُمى وغيرها والتي تسببت بهلاك الملايين من البشر وكانت سبباً في زوال امبراطوريات وانهيار مدن وقرى وظهور أخرى.
أمثلة لبعض الجوائح التي ضربت العالم منذ القرن الرابع عشر ولغاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرون
وقد أدت هذه الجوائح والفايروسات الى توقف النشاطات التجارية، ويشير المؤرخون الى ان هذه الجوائح والاوبئة أدت الى حجر مدن بأكملها وانهارت الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.
وبالرغم من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي واجهها العالم بسبب تفشي الأوبئة والجوائح قبل كورونا الا انها تأثيراتها كانت محدودة بشكل او بآخر على الاقتصاد العالمي اما بسبب كونها غير واسعة الانتشار او بسبب عدم تكامل الاقتصاد العالمي والأسواق كما هي الان عليه، مما أدى في نهاية المطاف الى عدم امتداد الاثار الاقتصادية على مستوى الخريطة الجغرافية.
- جائحة كورونا: فيروس معولم
الاعتلال الوبائي المنتشر في ارجاء المعمورة المعروف بـــ covid-19 يحمل اسماً علمياً مزدوجاً هو SARS-COV-2 اشتقت من الحروف الأولى لعبارة اطول وهي Severe Acute Respiratory Syndrome Corona Virus-2 وهي المتلازمة النفسية الحادة والوخيمة التي يتسبب فيها الفيروس التاجي الثاني، هذا الوباء استمرار لسقم قديم تسبب فيه النوع الأول من الفيروس SARS-COV-1 الذي أصاب نحو 8 الاف شخص من آسيا ولم ينتشر، تلتهُ متلازمة الشرق الأوسط التنفسية Middle East Respiratory Syndrome Corona Virus MERS-COV والتي انتشرت عام 2012 سرعان ما انطفأت جذوتها ولم تنتشر على نطاق واسع، في حين كان لهذا الفيروس تداعيات وانعكاسات وخيمة على الاقتصاد العالمي بأسرهُ.
- الاقتصاد العالمي تحت وطأة كورونا
ما ان تم الإعلان عن أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر من عام 2019 في مقاطعة في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي الصينية حتى توالت الإصابات وتفشت الجائحة وانتقلت الى اغلب دول العالم في عولمة سريعة لهذا الفيروس، مخلفة اثار اقتصادية واجتماعية جسيمة انعكست على أداء الاقتصاد العالمي.
وقد سارعت المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى متابعة تداعيات جائحة كورونا وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي وضع سيناريوهات لآفاق الاقتصاد العالمي، محذرةً من عواقب وخيمة وطويلة الأمد للجائحة في الاقتصاد العالمي.
- سيناريو البنك الدولي…. جائحة تٌخلف ندوباً تستمر امداً طويلاً وتحديات جسيمة.
أصدر البنك الدولي في حزيران 2020 تقرير ” الافاق الاقتصادية العالمية Global Economic Prospected وكان مخصص لتقييم آثار جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي بشكل عام وعلى الافاق الإقليمية بشكل خاص والنتائج المحتملة، وقد وصف التقرير هذه الجائحة بالضربة الموجعة موضحاً ان هناك ركود عميق هو الاسوء منذ الحرب العالمية الثانية، ويبحث التقرير في عمق واتساع العاصفة الاقتصادية والإنسانية. وبعيداً عن الاثار الاقتصادية المذهلة سيكون للوباء أيضا تأثيرات اجتماعية شديدة وطويلة الأمد قد تؤدي الى ضعف آفاق النمو على المدى الطويل وانخفاض الاستثمارات وتآكل رأس المال البشري من خلال ارتفاع معدلات البطالة وتعطل التجارة.
ويشير التقرير الى ان صدمة كورونا تسببت بانكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2% ومن المتوقع ان ينكمش النشاط الاقتصادي في الاقتصادات المتقدمة بنسبة 7% من جراء الاضطرابات الشديدة وهو اول انكماش لها كمجموعة منذ 60 عام على الأقل، ومن المتوقع ان ينخفض نصيب الفرد فيه الى 3.6% وسقوط الملايين في براثين الفقر.
شكل (1) النمو الاقتصادي العالمي وفق سيناريو البنك الدولي (%)
في حين من المتوقع ان ينكمش اقتصاد الولايات المتحدة الامريكية بنحو 6.1% في حين سينكمش الناتج في منطقة اليورو الى ما يقارب 9.1%. اما فيما يتعلق بالآفاق الإقليمية فمن المتوقع ان ينخفض الناتج في شرق اسيا والمحيط الهادي الى نحو 0.5% وهو أدنى مستوى له منذ 1967، في حين سيشهد إقليم أوروبا واسيا الوسطى انكماشاً قد يصل الى 4.7%، وفي أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي ستؤدي الازمة الى انكماش النشاط الاقتصادي بنسبة 7.2%، وفي جنوب اسيا سينكمش الناتج بنحو 2.7% وفي افريقيا جنوب الصحراء 2.8%.
اما فيما يتعلق بالفقر، فتُشير دراسات البنك الدولي واستناداً الى توقعات وآفاق الاقتصاد الدولي الى سقوط نحو 70 مليون شخص في براثن الفقر المدقع، وقد يصل هذا العدد الى نحو 100 مليون شخص، وستكون منطقة افريقيا جنوب الصحراء وجنوب اسيا الأشد تضرراً من ذلك.
- سيناريو صندوق النقد الدولي: تداعيات أكثر حدة من المتوقع
اشارت البيانات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي الى هبوط غير مسبوق في النشاط الاقتصادي العالمي بسبب جائحة كورونا، وتشير البيانات الى مرور عدة اقتصادات الى ركود أعمق مما كان متوقعاً من قبل.
وتشير توقعات ابريل 2020 من افاق الاقتصاد العالمي الى ان هناك عدم يقين اعلى من المعتاد يحيط بهذه التنبؤات ومن المتوقع ان يبلغ انكماش الاقتصاد العالمي بنحو 4.9% وبانخفاض ما يقارب 1.9% من عدد ابريل 2020، والاقتصادات المتقدمة تتراجع بنحو 8% والولايات المتحدة 8%، ومنطقة اليورو بـــ 10.2%، واقتصاديات الأسواق الصاعدة والنامية بنحو 3% وأوروبا الصاعدة والنامية بما يقارب5.8%، وأمريكا اللاتينية والكاريبي بنحو 9.4% والشرق الأوسط واسيا الوسطى لنحو 4.7%، والبلدان المنخفضة الدخل بـــ 1%.
شكل (2) توقعات النمو في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي بحسب سيناريو صندوق النقد الدولي
وتنطوي هذه التوقعات على خسارة تراكمية يتكبدها الاقتصاد العالمي على مدار عامين (2020-2021) تزيد على 12 تريليون دولار بسبب الأزمة.
شكل (3) خسائر الناتج التراكمية في الاقتصاد العالمي الناجمة عن جائحة كورونا
هذه التوقعات سوف تترك اثراً على الاسر من ذوي الدخول المنخفضة مما يتسبب في زيادة عدم المساواة بدرجة أكبر، اذ تُشير التوقعات الى ان أكثر من 90% من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية تسجل معدلات نمو سالبة لدخل الفرد في عام 2020، مما ينعكس على العمالة في القطاع الغير رسمي وفقدان الوظائف وخسائر كبيرة في دخل الافراد، الامر الذي ينعكس على زيادة مستويات الفقر حول العالم.
اما فيما يتعلق بالدين العام فمن المتوقع ان يبلغ الدين العام أعلى مستوياته التاريخية هذا العام كنسبة من إجمالي الناتج المحلي ومن المتوقع ان يتجاوز مستوى الذروة بعد الحرب العالمية الثانية في كل من الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وسوف تحتاج البلدان إلى أطر مالية سليمة لضبط الأوضاع على المدى المتوسط.
شكل (4) الدين العام يتجاوز مستوى الذروة بعد الحرب العالمية الثانية (%) من اجمالي الناتج المحلي
وفي هذا السياق، فان نمط تعافي الاقتصاد العالمي قد يكون على شكل حرف U مما يعني ان الاقتصاد العالمي سيعاني من ركود لمدة أطول من المتوقع، مون غير المرجح انحسار المخاطر الاقتصادية لهذه الجائحة على الأمد القصير قبل ان يبدأ بالارتفاع التدريجي من جديد.
ختاماً، لابد من التأكيد على ان انتشار الأوبئة والفايروسات والجوائح أصبحت حالة طبيعية وملازمة للاقتصاد العالمي، ومن ثمً فإن جائحة كورونا ليست بالشيء الجديد، ولكن ما هو جديد ان هذه الجائحة أصبحت لها انعكاسات سلبية وخطيرة على أوضاع وافاق الاقتصاد العالمي وذلك بسبب الانفتاح والتحرر وإزالة القيود وشيوع ظاهرة العولمة……….. الخ. اذ أدت هذه الجائحة الى ارتفاع معدلات الفقر حول العالم، وزيادة مستويات الدين العام الى مستويات تاريخية، وتفاقم العجوزات في الموازنات العامة، واضطرابات وخسائر في الأسواق المالية وتراجع في قطاعات السياحة والخدمات وسلاسل التوريد، وتآكل راس المال البشري من خلال فقدان فرص العمل، فضلاً عن المزيد من الضغوط على القطاع الصحي.