حقيقة الأزمة المالية العالمية
د. عبد الحميد الغزالي
لا شك أننا نعيش الآن بوادر أزمة مالية عالمية، والتي بدأت بشكل حاد في التجربة الأمريكية، ثم بصورة أقل حدةً في التجارب الأوروبية المرتبطة بها، ثم التجربة اليابانية وتجارب دول جنوب شرق آسيا، ثم الصين وروسيا، وأخيرًا بقية دول العالم، وهي الدول النامية.
ولكي نتفهَّم حقيقة هذه الأزمة ومدى خطورتها، يتعين أن نتعرف على بعض الحقائق الأساسية المرتبطة بها، وهي:
أولاً: يقوم النظام الرأسمالي على مبدأ الحرية الاقتصادية، والدولة الحارسة، أي التي تقوم أساسًا بالخدمات العامة الرئيسة، وهي: الدفاع والأمن والقضاء، ولا تتدخل بصورةٍ مباشرة في النشاط الاقتصادي.
أما ما يحدث الآن فهو تدخل شديد الوضوح؛ ليس من السلطات النقدية- أي البنوك المركزية- وإنما من رأس الأنظمة الرأسمالية ووزارات ماليتها أو خزانتها.
والدليل على ذلك أن خطة الإنقاذ الأمريكية سُمِّيت باسم وزير الخزانة الأمريكي، وهي خطة “بولسون“.
ولذلك وقَّع أكثر من 50 اقتصاديًّا أكاديميًّا أمريكيًّا على وثيقة ترفض هذا التدخل، وترفض هذه الخطة على أساس أن النظام الرأسمالي من وجهة نظرهم لديه المقومات التي تُصحح مساره بدون تدخلٍ حكومي.
ثانيًا: أن بنك الاتحاد الفدرالي- أي البنك المركزي الأمريكي- لم يقم بدوره كبنك مركزي في مراقبة جادة للنظام المصرفي، واكتفى باستخدام سعر الفائدة كأداةٍ لإدارة النشاط الاقتصادي بعامة، وهذا الجهاز بخاصة.
بينما نجد أن كثيرًا من وحدات هذا الجهاز أخذت تعمل خارج الطريقة النظامية؛ أي ما يُسمَّى بالنشاط خارج الميزانية، أي بعيدًا عن ميدان الرقابة.
وهذا النشاط الخارجي يعادل 6/7 من مجمل النشاط المصرفي الأمريكي، أي إن 1/7 فقط من هذا النشاط هو الذي يراقبه البنك المركزي، بينما بقية النشاط خارج نظام الرقابة، ويُقدَّر هذا النشاط بـ600 تريليون دولار، ولعل هذا هو مكمن الأزمة الحالية.
ثالثًا: إدارة النظام المصرفي بصفةٍ عامة تتلخَّص في كفاءة إدارة- أي تنفيذ- السياسات المصرفية، وهي: إدارة السيولة والربحية، وإدارة مخاطر الائتمان، وإدارة كفاية رأس المال.
ونجد أن السبب الرئيس للأزمة الحالية يتمثَّل في أن وحدات الجهاز المصرفي الأمريكي ثم الأوروبي ثم بقية الأجهزة في العالم لم تتقيَّد بهذه السياسات بشكلٍ كافٍّ، أو بالمرة.
ذلك لأنها ركَّزت على الربح السريع الضخم عن طريق الإقراض غير المسئول وغير المنضبط بالقواعد المصرفية المعروفة، خاصةً في قطاع العقارات، أي التمويل العقاري.
ومن ثم أهملت في الوقت ذاته- ولا أقول أهدرت- اعتبار السيولة أو الثقة، ولم تقم بإدارة رشيدة لمخاطر الائتمان أو كفاية رأس المال.
هذا بجانب أن الربح السريع والضخم صاحبه فسادٌ في قمة إدارة هذه المؤسسات؛ فمثلاً بلغت مرتبات ومخصصات الرئيس التنفيذي لبنك “ليمان براذرز” 486 مليون دولار في العام الماضي (2007م).
رابعًا: أن خطة الإنقاذ وما سبقها من محاولات إنقاذ وحدات مصرفية، مثل شركة التأمين العالمية الأمريكية، وصلت إلى ما يقرب من تريليونَي دولار، وتحديدًا 1.8 تريليون دولار؛ منها بالطبع 700 بليون دولار كخطة إنقاذ مباشرة.. هذا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
هذه الخطة في الواقع لا تعالج الجذور ومسببات الأزمة، وإنما تعالج مظاهر الأزمة، وبالتالي لم ولن تُحدث الأثر المطلوب على الأقل في فترةٍ وجيزة.
ونعني بالجذور دراسةَ قواعد عمل الوحدات المصرفية في الجهاز الأمريكي، وأيضًا دراسة أدوات الرقابة على هذه الوحدات، وقبل ذلك وبعده محاسبة المسئولين عن هذا الانهيار.
ثم بعد ذلك العودة- إن أمكن قبل الانهيار الكبير الذي قد يحدث- إلى سياسات مصرفية منضبطة حول السيولة والعائد، وإدارة مخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال.
ونحن هنا لا نتكلم عن “بازل 1 أو بازل 2″، وإنما نتكلم عن بازل جديد تمامًا، وليكن بازل 100، أو حتى سويسرا 100، أي ترتيبات جديدة تضمن إدارة جيدة للجهاز المصرفي في أية دولة.
ولعل القمة الأوروبية المُصغَّرة التي عُقدت 4/10/2008م بباريس، والتي نادت بعقد مؤتمر دولي عاجل لوضع أسس مجابهة هذه الأزمة، يشير إلى هذا الاتجاه الذي ذكرناه حالاً.
خامسًا: إذًا هناك بوادر انهيار؛ حيث إن الثقة- وهي أساس التعامل في مجال المال- تكاد تكون مفقودةً الآن في الاقتصاد الأمريكي عمومًا، وفي سوق المال بصفة خاصة (وول ستريت)؛ بدليل انخفاض مؤشر (داو جونز) بعد إقرار خطة الإنقاذ من ناحية، وارتفاع مؤشرات الركود من ناحية أخرى؛ حيث سجَّل شهر سبتمبر فقط فقدان 160 ألف فرصة عمل بالاقتصاد الأمريكي.
سادسًا: وصل النظام المصرفي الأمريكي إلى حالة التجمد الائتماني؛ فلا يوجد إقراض يُذكر لقطاع الأعمال أو المستهلكين، ومن ثَمَّ توجد حالة شلل يكاد يكون كاملاً في التيارات النقدية التي هي بمثابة الدم في جسد الإنسان بالنسبة للاقتصاد، خاصةً إذا أضفنا إليها إحجام المستهلك عن الإنفاق تخوفًا من المستقبل، وهذا هو بداية الانهيار الكبير؛ ليس في سوق المال فقط، وإنما في أساسيات الاقتصاد.
سابعًا: النظام الرأسمالي لا شك- كما أكدنا في بداية هذا المقال- قد دخل جو الأزمة؛ ليس في الاقتصاد الأمريكي فقط، وإنما من خلال التشابك بين دوله؛ في الاقتصاد الأوروبي والياباني واقتصاديات دول جنوب شرق آسيا، وأخيرًا الدول النامية.
وعملية الخروج من هذه الأزمة بمجابهتها بإجراءاتٍ جادة لن تحتاج إلى شهور، وإنما قد تستغرق عددًا من السنوات.
ثامنًا: فقَد الاقتصاد الأمريكي في يومَي الإثنين والثلاثاء- أي 29-30/9 فقط في (وول ستريت)- تريليون دولار في صورة هبوط في قيمة الأوراق المالية المتداوَلة.
وعمليات الإنقاذ في التجربة الأمريكية والعالم تجاوزت حتى الآن رقمًا غير مسبوق، وهو 3 تريليونات دولار؛ اثنان منها في التجربة الأمريكية كما سبق أن ذكرنا.
تاسعًا: النظام الرأسمالي الآن يعد استمراره محل جدل كبير، بل شك أكبر، لدرجة أن أحد الاقتصاديين الغربيين قال: “يتعين أن نُطلق على الولايات المتحدة الأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية الاشتراكية)؛ بسبب التدخل الحكومي الذي جاء في الواقع متأخرًا للغاية، وبسبب شلل الأجهزة الرقابة العادية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي؛ أي البنك المركزي الأمريكي“.
عاشرًا: ما العلاج؟:
يمكن أن نجيب عن هذا التساؤل الصعب بالخطوات التالية:
1- وقف المضاربات؛ أي المقامرات، وبالذات التعامل في المشتقات، وهي: الخيارات والمستقبليات والتحوطات لتغيرات سعر الفائدة.
2- محاسبة المسئولين عن الجهاز المصرفي بعامة والوحدات التي انهارت بخاصة.
3- تشديد رقابة السلطات النقدية؛ وعلى رأسها البنك المركزي، في ممارسة العمل المصرفي بعامة وضخ الائتمان بخاصة.
4- اعتماد السياسات المصرفية بحزم وصرامة، خاصةً فيما يتصل بإدارة السيولة والربحية وبإدارة مخاطرة الائتمان وبإدارة كفاية رأس المال.
5- الاستمرار في ضخ سيولة في شرايين الاقتصاد؛ حتى لا تنهار أساسيات القاعدة الإنتاجية، وندخل في كساد عالمي عظيم.
6- أخيرًا وليس آخرًا.. التفكير الجاد من قِبل المُنظِّرين الغربيين ومتخذي القرار في الغرب في دراسة تطبيق النظام الإسلامي البعيد عن سعر الفائدة الربوية، والقائم على معدل الربح كأداة لإدارة النشاط الاقتصادي المعاصر، والذي يستند- أي هذا النظام- على استثمار حقيقي لتوسيع القاعدة الإنتاجية، وليس على أساس استثمار مالي قوامه المضاربات؛ أي المقامرات والمغامرات والاستغلال والفساد.