احتكار الثروة
عبد الفتاح محمد صلاح
نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية الأمس 20/1/2014 تقريراً لمنظمة أوكسفام (أكبر المنظمات الخيرية الدولية في مجالي الإغاثة والتنمية)، حذرت فيه من تكدس الثروة في أيدي قلة من الأغنياء بينما تتسع هوة الفقر في العالم.
ملخص تقرير أوكسفام
صرح التقرير بأن 1% من سكان العالم يمتلكون ما يقارب نصف ثرواته البالغ قدرها 110 تريليونات دولار ( أي 110 ألف مليار دولار)، وهي تساوي 65 ضعفاً عن ما يمتلكه ” النصف الأفقر ” من سكان العالم البالغ عددهم 7 مليار نسمة في الوقت الحالي.
لزيادة الإيضاح أشار التقرير إلى أن مجموعة من الأشخاص لا يزيد عددهم على 85 شخصاً فقط من أغنى أغنياء العالم ويمكن جمعهم في حافلة واحدة يمتلكون 1,7 تريليون دولار، تعادل ثروة نصف سكان العالم الفقراء البالغ عددهم 3,5 مليار نسمة، وبين التقرير أن هؤلا الأثرياء قاموا بتنمية ثرواتهم في 24 دولة خلال الثلاثين سنة الماضية.
لقد نبه تقرير أوكسفام إلى العواقب السلبية لاتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وإمكانية أن يتسبب ذلك في اضطرابات اجتماعية على مستوى العالم، وقد اختارت أوكسفام نشر تقريرها في الأسبوع الذي يعقد فيه منتدى دافوس الاقتصادي العالمي بسويسرا لبحث أخطر المشكلات التي تواجه العالم، في محاولة لإيجاد حلول للأوضاع المتزايدة من عدم المساواة.
أزمات النظام الاقتصادي الرأسمالي لن تنتهي
أعتقد أن الجميع بات يعرف أن النظام الرأسمالي الذي يحكم العالم اقتصادياً بعد انتهاء النظام الاشتراكي بنهاية الشيوعية أزماته لا تنتهي، فبدءً بالكساد العظيم 1929، إلى أزمة البورصة المصرية 1959، إلى أزمة سوق المناخ 1982، إلى الإثنين الأسود 1987، إلى أزمة المكسيك 1994، إلى أزمة النمور الآسيوية 1997، إلى الثلاثاء الأسود في البورصة السعودية 2006، إلى الأزمة المالية العالمية 2008، وهي الأعنف ولكنها لن تكون الأخيرة.
الأزمة المالية العالمية في 2008 أحدثت صدمة نوعية في كافة الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية حتى وصفت بأنها ” التسونامي المالي للقرن الحالي ” بحسب تصريح محافظ الاحتياطي الفدرالي الأميركي السابق ألن غريسبان، وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كذلك إلى إطلاق تصريحه: ” إن النظام العالمي كان على شفا الكارثة “، وهو ما دفع رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون إلى القول: ” إن ما يتطلبه الموقف الآن هو مراجعة عالمية شاملة للنظام العالمي “. لقد عكست هذه الأزمة فداحة الرأسمالية، وهو ما زاد من عدد الأصوات المنادية برأسمالية أخلاقية، هذا التوجه نحو ابتداع أخلاق للرأسمالية إشارة واضحة بأنه لا بد من كبح جماحها كي لا يتكرر تسونامي الجائحة المالية مرة أخرى. إلا أن أحداً لم يقدم لنا من أين يمكن استيفاء تلك القيم والمعايير الأخلاقية، أو من أين يمكن استعارتها لتجميل وجه الرأسمالية المتوحشة وإنقاذها من الانهيار.
ولأن سبب الأزمات المتكررة ناشئ عن فساد آليات النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي لا ينضبط بأي قواعد أو قيم أو مبادئ أو أخلاقيات تحكم هذه الآليات، ها هو تقرير أوكسفام يصدم الجميع بحقائقه عن تفاوت الفوارق الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء في العالم، ويعلن أن تكافؤ الفرص بين الأجيال القادمة مجرد سراب، ويحذر من تأثير ذلك على الاضطرابات الاجتماعية على مستوى العالم، ويرجع التقرير سبب زيادة التفاوت الاقتصادي إلى رفع القيود المالية، والنظم المالية المنحازة، وقواعد تسهيل التهرب الضريبي، واحتكار مشاريع النفط والتعدين.
الحل عند النظام الاقتصادي الإسلامي
إن تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس يحدث الشرور والآثام لأنه يقسم المجتمع إلى طبقات، ولا شئ أسوأ من تقسيم المجتمع إلى طبقة محدودة جداً من الأغنياء وطبقه كثيرة من الفقراء، فتتسلط هذه القلة وتتحكم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتها بغير حق، ويوجه القلة من أصحاب الأموال الاقتصاد كله وفقاً لمصالحهم ورغباتهم.
لذا وضع الإسلام قاعدة اقتصادية، تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية الإسلامية، وهي ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعاً من التداول بين الفقراء، فقال تعالى: ” كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ” سورة الحشر 7. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم، هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية، كما أنه يخالف هدفاً من أهداف التنظيم الاجتماعي كله.
لم يتوقف النظام الاقتصادي الإسلامي عند وضع القاعدة، وإنما حدد الوسائل أو الآليات التي تعمل على تحقيق القاعدة بإعادة توزيع الدخول والثروات بصورة تلقائية وانسيابية في المجتمع، بما لا يسمح بوجود احتكار للثروة ولا تبقي عليه إن وجد، من هذه الوسائل:
• الزكاة: رغم انخفاض نسبة الزكاة إلا أنها تعرض الثروات المكتنزة التي لا تساهم في الإنتاج والتداول للتآكل على مر السنين، مما يدفع أصحاب هذه الثروات إلى إخراجها من دائرة الاكتناز، والدفع بها في مجال الاستثمار الذي ينعش الاقتصاد ويقضي على البطالة، ويولد دخول للفقراء القادرين على العمل.
أما الفقراء الذين لا يقدرون على العمل لظروف خارجة عن إرادتهم فإن توزيع الزكاة بصورة مباشرة عليهم يوفر لهم حد الكفاية لهم ولمن يعولون، وهو ما يقضي على احتكار الثروة، ويسمح لجميع أفراد المجتمع بتداولها.
• الميراث: بينت الآيات القرآنية ضرورة توزيع ثروة المتوفى بمجرد وفاته، وفصلت كيفية هذا التوزيع وفق نسق محدد واضح يضمن عدم تضخم الثروة وإعادة توزيعها بانتظام، تحقيقاً لاستمرار تداول الثروات على مدى الأجيال.
بجانب هذه الوسائل الإلزامية الآمرة يوجد وسائل إلزامية تنهى عن الأعمال التي تعيق تدفق وتداول الأموال بين أفراد المجتمع، وتضر بعدالة توزيع الثروة والدخل منها:
• تحريم الربا: الربا من الأمور التي شدد القرآن على تحريمها، قال تعالى: ” يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ” البقرة 276، والمحق يعني إبادة وذهاب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، فالربا كارثة اقتصادية تمزق المجتمع نفسياً ومالياً ولا تترك لأفراده إلا الحسرة والندامة.
يأتي التحريم المشدد للربا لمنع الاعتماد على توليد المال للمال، دون أي إضافة حقيقية إلى النشاط الاقتصادي الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو غيرها مما يحتاج إلى العمل، فتحدث البطالة وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع، ويتحول مجرى الثروة إلى جهة واحدة هي جهة الأغنياء، وهو ما يرفضه النظام الاقتصادي الإسلامي.
والربا هو الكبيرة الوحيدة التي استحق فاعلها الحرب من الله ورسوله، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ” البقرة 278، 279. فإذا علمنا أن الخسائر الاقتصادية للحرب العالمية الأولى 197 مليار دولار، وخسائر الحرب العالمية الثانية 2,09 تريليون دولار، وخسائر حروب الشرق الأوسط 12 تريليون دولار، وأن مؤتمر دولي متخصص في المحاسبة قدر خسائر الاقتصاد العالمي من الأزمة المالية- الناتجة عن التعامل بالربا- بقرابة 71 تريليون دولار! لا نملك إلا أن نقول صدق الله عز وجل.
• تحريم الاكتناز: الكنز في الأصل هو المال المدفون تحت الأرض من الذهب والفضة، قال تعالى: ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” التوبة 34، وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على ظهر الأرض غير مدفون. أما الاكتناز بالمعنى الاقتصادي فيقصد به تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في الاقتصاد وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة تداول الثروة يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي.
• تحريم الاحتكار: الاحتكار هو حبس السلع والخدمات التي يحتاج إليها أفراد المجتمع لحين غلاء أسعارها، لتحقيق مكاسب كبيرة نتيجة الانتظار الزمني، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه لأنه يكون بفعله هذا قد برئ من الله، وقد برئ الله منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه ” رواه أحمد. إذا كان هذا هو جزاء من يحتكر السلع لتحقيق مكاسب أكبر، فما بال احتكار ثروة العالم أجمع وتركيزها في يد قلة من الأفراد مع افتقار باقي شعوب العالم إليها.
• تحريم الظلم والضرر: تؤكد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على تحريم كل العلاقات الاقتصادية التي تتسبب في إلحاق الظلم أو الضرر بالأفراد أو بالمجتمع الاقتصادي، قال تعالى: ” وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ” البقرة 188، والأكل بالباطل أنواع قد يكون بطريق الغصب والنهب والقمار، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة وغير ذلك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا ضرر ولا ضرار ” رواه مالك. وهذا الحديث على قصره يبين السياج المحكم الذي بنته الشريعة لضمان مصالح الناس، فهو ينهى الإنسان عن التطلع إلى تحقيق مصالحه الاقتصادية على حساب مصالح الآخرين، لأن ذلك التصرف يتسبب في إشاعة الأنانية وكثرة المنازعات، وهذا ما جاء الإسلام للقضاء عليه، ليكون التعامل بين البشر قائم على أساس من الأخوة الإنسانية والاحترام المتبادل.
هكذا تشكل الوسائل الإلزامية الناهية في النظام الاقتصادي الإسلامي آليات لتنقية النظام الاقتصادي من كل ما يعيق حركة تداول الثروة، لتهيئة المناخ الاقتصادي والاجتماعي الملائم لتطبيق أدوات العمل الآمرة، لتمارس دورها في إعادة توزيع الثروة والدخل في المجتمع. ولم يقتصر النظام الاقتصاد الإسلامي على الوسائل الإلزامية لإعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء فحسب، وإنما رغب الأغنياء في وسائل تطوعية تحقق نفس الهدف، وتشمل هذه الوسائل الصدقات، والنذور، والوقف.