بقلم الاستاذ المساعد الدكتور حيدر حسين ال طعمة
يواجه الاقتصاد العالمي ازمة اقتصادية حادة نتيجة الوباء الذي أحدثه تفشي فيروس كورونا (COVID-19). والذي خلف تباطؤ في النمو الاقتصادي مصحوب بذعر مالي طال كافة اسواق المال في العالم، مما يُنبأ بمضاعفات اقتصادية خطيرة اذا ما اتخذ تفشي الوباء منحى تصاعدي مستمر. وعلى الرغم من اهمية الدروس التي قدمتها الازمة المالية العالمية عام 2008 لصناع السياسة الاقتصادية للتعامل مع الازمات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم، الا ان صناع السياسات آنذاك لم يضطروا الى التعامل مع وباء فتاك كفايروس كورونا.
وبغض النظر عن التأثير المباشر على الصحة العامة، يمكن لأزمة بهذا الحجم أن تؤدي إلى نوعين مباشرين، على الأقل، من الصدمات الاقتصادية. الأولى صدمة عرض (إنتاج)، بسبب تعطل سلاسل التوريد العالمية. والصدمة الثانية هي صدمة طلب نظرا لاتخاذ الحكومات والناس خطوات احترازية لإبطاء انتشار فيروس كورونا، اذ يلاحظ تراجع الإنفاق على المطاعم ومراكز التسوق والوجهات السياحية. وهناك أيضًا احتمال حدوث مضاعفات غير مباشرة، كالانخفاض الحاد في أسعار النفط بعد إخفاق روسيا والسعودية في الوصول إلى اتفاق لتخفيض الإنتاج وكبح تهاوي الاسعار. ومع انتشار هذه الصدمات وغيرها قد تضطر الشركات الصغرى والمتوسطة الحجم إلى الاغلاق، مما سيؤدي إلى تسريح العمال، وفقدان ثقة المستهلك، وبالتالي المزيد من التخفيضات في الاستهلاك والطلب الكلي.
من الناحية المالية، قد يكون العالم غير مستعد للتعامل مع الأزمة مقارنة بما كان عليه الحال عام 2008. فعلى الرغم من أن القطاع المالي العالمي يبدو في حال أفضل كثيرا عما كان عليه قبل 12 عاما، الا إن المديونية العالمية (نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي) لم تكن ابدا أعلى مما هي عليه الآن، اذ بلغ الدين العام الأميركي أعلى مستوياته (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) منذ الحرب العالمية الثانية.
الاجراءات المتخذة على مستوى العالم
اتخذت معظم دول العالم حزمة من القرارات والاجراءات لتطويق المضاعفات الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا، وفيما يلي ابرز تلك الاجراءات: طلبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الكونجرس الموافقة على مدفوعات نقدية بقيمة 500 مليار دولار لدافعي الضرائب في جولتين بدءا من السادس من أبريل نيسان، وقروض بقيمة 50 مليار دولار لشركات الطيران الأمريكية للتعامل مع التأثير المالي الناجم عن فيروس كورونا. وسيجري تحديد الشرائح بناءا على دخل وحجم الأسرة، وستنفذ على جولتين بقيمة 250 مليار دولار لكل منهما تبدآن في السادس من أبريل نيسان و15 مايو أيار 2020. وتسعى إدارة ترامب أيضا، في إطار مقترح للتحفيز والإنقاذ بقيمة تريليون دولار، إلى 150 مليار دولار أخرى لإنقاذ قطاعات الاقتصاد المتضررة بشدة بمنحها قروض أو ضمانات قروض بقيمة 300 مليار دولار للشركات الصغيرة. وسيشمل ذلك فنادق ومطاعم وصناعات مرتبطة بالطيران وقطاع التصنيع والبواخر السياحية.
صرح البنك الفدرالي الأميركي أنه سيقدم المساعدة للشركات التي تجد صعوبة في الحصول على التمويل قصير الأجل الذي تحتاجه للعمل. واشار البنك الى تسهيلات ائتمانية خاصة لشراء أوراق الشركات من جهات إصدار كانت تواجه صعوبة في العثور على مشترين في السوق المفتوحة.
يعتزم الرئيس الأميركي ترامب بحث توفير تريليون دولار، كحزمة مساعدات اقتصادية للأفراد والشركات الصغيرة، لحمايتهم من التأثر بتداعيات انتشار فيروس كورونا. وأشار إلى التوسع في تقديم خدمات الرعاية الصحية عن بعد، حيث يمكن للمرضى، الاتصال بأي طبيب عبر الانترنت دون أي تكاليف، ومن شأنه ذلك تعزيز قدرات المستشفيات. كما أكد الرئيس الأميركي أن حكومته ستعمل على توفير دعم اقتصادي للشركات الصغيرة مثل شركات الوجبات السريعة، وستقدم مساعدات للمصانع والشركات المتضررة حتى تتعافى من آثار كورونا.
قال وزير الخزانة الأميركية ستيفن منوشين: إن الرئيس الأميركي وافق على تنظيم آلية لتأخير دفع الضرائب، مع التأكيد على المواطنين كافة بضرورة مواصلتهم تقديم الكشوفات الضريبية. كما أشار منوشين إلى أنه يتابع مع شركات الطيران، آخر التحديثات بشأن عمليات الفحص والازدحام بالمطارات، مبيناً أن قطاع الطيران يواجه إحدى أسوء أزماته. وأوضح أنه سيتجمع مع الكونغرس، لمناقشة حزمة المساعدات الاقتصادية التي أعلن عنها الرئيس الأميركي. يستعد وزراء مالية منطقة اليورو تقديم دعما مالي يقارب 1% من الناتج المحلي الإجمالي لمساعدة الاقتصاد في مواجهة تداعيات وباء فيروس كورونا وتعهد الاتحاد الاوربي بالمزيد إذا اقتضت الضرورة. كما توقع رئيس مجموعة اليورو،
“ماريو سينتينو” استجابة كبيرة جدا من دول المجموعة لمواجهة التداعيات الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا، مؤكداً أن الدول الأعضاء ستطلق العنان للمرونة الكاملة لقواعد الإنفاق.
قرر المصرف المركزي الأوروبي إطلاق خطة ضخمة بقيمة 750 مليار يورو لشراء سندات عامة وخاصة بهدف الحدّ من التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا. ووعد الاتحاد الاوربي تقديم تسهيلات سيولة بما لا يقل عن 10% من الناتج المحلي الإجمالي، تتكون من برامج ضمانات عامة وتأجيل مدفوعات ضرائب، وهذه النسبة قابلة للزيادة مستقبلا.
صرحت بريطانيا إنها ستتيح ضمانات قروض قيمتها 330 مليار جنيه إسترليني (399 مليار دولار)، بما يعادل 15% من ناتجها المحلي الإجمالي، إلى جانب إجراءات أخرى لمساعدة الشركات المتضررة، في تكثيف لمساعي مكافحة العواقب الاقتصادية لفيروس كورونا.
اعلن وزير المالية ريشي سوناك استعداده لزيادة حجم ضمانات القروض بما يكفل وصول السيولة إلى جميع الشركات التي تحتاجها في ظل تباطؤ النشاط الاقتصادي. وتشمل الإجراءات الأخرى تعليق مدفوعات الرهن العقاري ثلاثة أشهر للأفراد الذين يمرون بصعوبات مالية وتوسيع نطاق تعليق ضريبة الممتلكات على الشركات الصغيرة ليشمل جميع شركات قطاعي السياحة والترفيه. وستحصل تلك الشركات أيضا على منحة نقدية وستبحث الحكومة تقديم حزمة دعم لشركات الطيران والمطارات، حسبما ذكر سوناك.
أعلنت إسبانيا عن حزمة ضخمة قوامها 200 مليار يورو (220 مليار دولار) لمساعدة الشركات وحماية العمال والفئات الضعيفة المتأثرة بأزمة فيروس كورونا الآخذة بالاتساع. ويتكون نصف إجراءات المساعدة، البالغة قيمتها 20% من الناتج الاقتصادي لإسبانيا، ضمانات قروض مدعومة من الدولة للشركات، ويشمل الباقي قروضا ومساعدات للفئات الضعيفة. وستدفع إسبانيا إعانات للعمال المسرحين تسريحا مؤقتا وتعلق مدفوعات الرهن العقاري لمن تأثرت وظائفهم بتفشي الفيروس، إلى جانب إجراءات أخرى.
السياسات المطلوبة لتطويق الازمة
تعهد وزراء مالية مجموعة السبع ومحافظو البنوك المركزية باستخدام “جميع أدوات السياسة المناسبة” لاحتواء التهديد الاقتصادي الذي يمثله فيروس كورونا المستجد (COVID-19). لكن السؤال ما هي تلك الأدوات المناسبة؟ لقد كانت الاستجابة الفورية لتراجع النشاط الاقتصادي وانهيار مؤشرات اسواق المال العالمية في صورة تخفيضات في أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية، اذ سارع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى تخفيض اسعار الفائدة لتوفير السيولة اللازمة. مع ذلك لم تفعل اسعار الفائدة الكثير نظرا لكونها تقبع بالفعل عند مستويات منخفضة للغاية منذ سنوات. كما ان خفض اسعار الفائدة لن يعيد فتح المصانع التي أغلقها الحجر الصحي، ولن تعيد السياسة النقدية التوسعية المتسوقين إلى مراكز التسوق أو المسافرين إلى الطائرات، ما دامت اهتماماتهم منصبة على السلامة وليس التكلفة. وذات الشيء ينطبق على السياسة المالية، فلن تُعيد التخفيضات الضريبية تشغيل الإنتاج عندما تنشغل الشركات بصحة عمالها وخطر انتشار فيروس كورونا. ولن تؤدي تخفيضات الضرائب على الرواتب إلى زيادة الإنفاق الخاص عندما يشعر المستهلكون بالقلق إزاء مخاطر التسوق في اجواء موبوءة.
يتعين على البنوك المركزية والقادة السياسيين، الذين يواجهون أزمة عالمية، استخدام السياسات النقدية والمالية لضمان سيولة السوق (لأن القطاع الخاص سيكتنز السيولة النقدية)، ودعم الشركات الصغيرة، وتشجيع الإنفاق. وعليهم ايضا ادراك أن السياسات الاقتصادية التقليدية لن تخلف سوى اثار محدودة عندما لا تكمن المشكلة في نقص السيولة فقط، بل في تعطل الانتاج وانتشار عدوى الخوف.
يعتمد الاستقرار الاقتصادي اليوم بشكل أكثر أهمية على تصرفات مؤسسات الصحة العامة، التي ينبغي أن تُمنح الموارد ويُفسح لها المجال لأداء وظائفها، بما في ذلك حرية التعاون مع نظيراتها الأجنبية. كما يتطلب وقف الذعر المالي العالمي التعاون السياسي الدولي وضخ كميات كبيرة من السيولة الحكومية. وما لم تتخذ الاجراءات المذكورة، فهناك كل الأسباب التي تجعلنا نتوقع ركودا اقتصاديا عالميا طويلا وشديدا، ستكون عواقبه وخيمة على الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.