د. حيدر حسين ال طعمة
تتسع التصدعات الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد عالميا، ويزداد قلق الخبراء والمنظمات الدولية من التداعيات الاقتصادية المترتبة على الاجراءات الاحترازية التي اتخذت مؤخرا للوقاية وابطاء معدلات تفشي العدوى بين المواطنين في كافة بلدان العالم. في هذا السياق، تستمر الجهود الدولية في اعتماد سياسات اقتصادية طارئة تهدف الى تخفيف عبء الاثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تفشي هذا الفيروس على الاقتصادات الوطنية. مؤخرا، وفي اطار تطويق المضاعفات الاقتصادية المتفاقمة، قدم صندوق النقد الدولي خطوات مقترحة لمعالجة ازمة فيروس كورونا المستجد وحماية الاقتصاد العالمي من الانزلاق الى ركود اقتصادي حاد ناجم عن تزامن صدمات العرض والطلب في ان واحد. وقبل استعراض وتحليل ابرز السياسات المقترحة ينبغي الاشارة الى ان القيام بإجراءات استباقية في اطار عالي من الشفافية والتضامن والتنسيق الدولي في مكافحة فيروس كورونا، شروط ضرورية لتحقيق الاهداف المتوخاة من السياسات الاحترازية اللازمة. وتعتمد كفاءة السياسات الاقتصادية في تحقيق اهدافها على مراعاة التوقيت المناسب والجرع المالية والنقدية اللازمة لاحتواء الركود الاقتصادي العالمي المحتمل.
اولا: توجيه السياسات المالية
للسياسات المالية دور ريادي في معالجة الازمات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم كما افصحت عن ذلك تجارب الازمات الاقتصادية والمالية الحديثة، ويمكن توجيه السياسات المالية صوب:
دعم الحكومات للمتضررين من الأفراد والشركات لتطويق التداعيات الاقتصادية المحتملة، فتقديم مساعدات لدعم الأجور في مؤسسات الأعمال المتأثرة بعمليات الغلق يمكن أن يساعد في منع حالات الإفلاس المتتالية وتقليص عمليات تسريح العمال التي ستكون لها آثار ممتدة على التعافي الاقتصادي في المستقبل.
للحفاظ على معدلات الطلب الكلي لابد من توسيع التحويلات النقدية للأسر منخفضة الدخل لدعم الاستهلاك والحفاظ على الحد الأدنى لمستويات المعيشة.
ضخ دفعة مالية تنشيطية واسعة النطاق لإدامة زخم الطلب الكلي، وينبغي التركيز على تنشيط الاستثمار أو إجراء تخفيضات ضريبية تطال كافة القطاعات الاقتصادية (والمتضررة منها بشكل خاص).
رغم أن اضطرابات جانب العرض قد تحد من تأثير الدفعة المالية التنشيطية (نظرا للإغلاق الحكومي للمصانع والشركات وحجر الافراد)، فإن التعجيل بتنفيذ إجراءات استثمارية أو سياسات تحفيزية يمكن أن يحول دون وصول الدفعة المالية التنشيطية بعد فوات الأوان. في هذا الصدد ورغم استجابة المالية العامة في بلدان مجموعة العشرين لتداعيات فيروس كورونا، الا انها لا تزال دون معدلات الدفعات التنشيطية التي صاحبت الأزمة المالية العالمية عام 2008، باستثناء الولايات المتحدة والمانيا. فقد اقر مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع يوم الأربعاء (25 مارس/آذار 2020) مشروع قانون (2 ترليون) دولار بهدف مساعدة العمال العاطلين والصناعات المتضررة من جائحة فيروس كورونا وكذلك توفير مليارات الدولارات لشراء المعدات الطبية التي تشتد لها الحاجة. وتشمل حزمة الإنقاذ، تمويلا بقيمة 500 مليار دولار لمساعدة الصناعات المتضررة بشدة ومبلغا مماثلا كمدفوعات مباشرة تدفع الى ملايين الأسر (قرابة ثلاثة آلاف دولار لكل اسرة). كما تضمن القانون تقديم 350 مليار دولار كقروض للشركات الصغيرة و250 مليار دولار لتوسيع نطاق مساعدات البطالة و100 مليار دولار للمستشفيات والأنظمة الصحية. اما في المانيا فقد أقر البرلمان قانونا لإنشاء( صندوق الاستقرار الاقتصادي) برأس مال قدره 600 مليار يورو، موجهة صوب قروض جديدة تصل قيمتها إلى 156 مليار يورو لدعم الشركات والموظفين ونظام الصحة العامة، وكضمانات للقروض المصرفية الممنوحة للشركات. كما وافق البرلمان على مشروع قانون مقدم من وزير الصحة لتعويض المستشفيات عن التكاليف الإضافية ونقص الإيرادات بسبب الأزمة الصحية الراهنة. وتُخصص المساعدات مدفوعات إضافية من أجل زيادة عدد الأَسِرَّة داخل وحدات الرعاية المركزة بالنسبة لأصحاب الحالات الخطيرة من مرضى كورونا.
نظرا للتفشي السريع لفيروس كورونا على مستوى البلدان المتقدمة والنامية، ولتشابه الاثار الاقتصادية الناتجة عن الاجراءات الاحترازية والصحية، فان تجنب الانزلاق الى ركود اقتصادي عالمي يتطلب تظافر الجهود الدولية في تنفيذ دفعة تنشيطية مالية منسقة ومتزامنة عالميا.
يكمن احد التحديات الاقتصادية الراهنة في تشابه اسباب الصدمة الاقتصادية الحالية (فيروس كورونا) في مختلف بلدان العالم مع اختلاف الادوات المتاحة للتغلب على اثارها الاقتصادية والمالية المتوقعة. اذ لا تملك البلدان منخفضة الدخل سوى خيارات محدودة على صعيد السياسات المحلية، وكثير منها تعاني من صدمات متعددة في الطلب الخارجي، ومعدلات التبادل التجاري، ومحدودية خيارات التمويل. وهي غير قادرة على ابطاء اثار تقلبات النمو الاقتصادي نظرا لارتفاع مديونيتها وضعف مرونة سياساتها النقدية والمالية. ولتحقيق هبوط أهدأ في النشاط الاقتصادي ينبغي تقديم الاقتصادات المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية التمويل الميسر لهذه البلدان وفي الوقت المناسب. وقد حث صندوق النقد والبنك الدوليان مؤخرا مقرضي الديون الثنائية الرسميين تقديم إعفاء فوري للبلدان الأشد فقرا في العالم لمساعدتها على توفير سيولة فورية ومواجهة التحديات التي يفرضها تفشي فيروس كورونا. كما اطلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، خطة استجابة إنسانية عالمية تستمر إلى ديسمبر(كانون الأول) المقبل، مع دعوة إلى تقديم مساعدات بملياري دولار على الاقل. ويسهم تمويل هذه الخطة بالقدر الكافي في إنقاذ العديد من الأرواح وفي تزويد الوكالات الإنسانية، والمنظمات غير الحكومية بالإمدادات المختبرية اللازمة لإجراء الفحوص اللازمة، وبمعدات طبية حديثة لعلاج المصابين، وحماية العاملين في مجال الرعاية الصحية.
ثانيا: توجيه السياسات النقدية
تلعب السياسات النقدية دورا ساندا لأي سياسة اقتصادية يمكن رسمها في الوقت الراهن للتصدي للازمة الاقتصادية والمالية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا، وفيما يلي ابرز مهام السلطة النقدية:
توفير البنوك المركزية للسيولة النقدية اللازمة لدعم أداء الأسواق وتخفيف الضغوط على أسواق التمويل، من خلال عمليات السوق المفتوحة، والتوسع في الإقراض، وغير ذلك من الإجراءات مثل عمليات الشراء المباشر وتسهيلات إعادة الشراء .وقد ابدى البنك الفدرالي الأميركي استعداده لتقديم المساعدة للشركات التي تجد صعوبة في الحصول على التمويل قصير الأجل الذي تحتاجه للعمل. واشار البنك الى تسهيلات ائتمانية خاصة لشراء أوراق الشركات من جهات إصدار كانت تواجه صعوبة في العثور على مشترين في السوق المفتوحة.
يدعم التيسير النقدي (السياسة النقدية التوسعية) الطلب الكلي والثقة مع تخفيض تكاليف الاقتراض على الافراد والشركات، اذ توفر تخفيضات أسعار الفائدة دفعة تنشيطية من خلال تقديم إرشادات استشرافية حول مسار السياسة النقدية المتوقع، والتوسع في شراء الأصول، بما فيها الأصول الخطرة.
دعم القطاعات الأكثر تضررا، كقطاع السياحة والطيران، كما ينبغي تقديم المزيد من الدعم الموجَّه للأصول المتضررة جراء السياسات الحكومية الرامية للوقاية من فيروس كورونا.
تكثيف التنسيق بين البنوك المركزية العالمية (خصوصا مجموعة العشرين) لتأمين الاستقرار للاقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية، ويتضمن ذلك تطبيق التيسير النقدي المنسق وإتاحة خطوط تبادل العملات للحد من الضغوط على الأسواق المالية العالمية وتخفيف ضغوط السيولة، بما في ذلك إتاحة خطوط تبادل العملات لاقتصادات الأسواق الصاعدة .
على السياسة النقدية في الاقتصادات الصاعدة والنامية تحقيق التوازن بين حماية النمو ومعالجة الضغوط الخارجية، بما في ذلك صدمات أسعار السلع الأولية (النفط) وانعكاس مسار التدفقات الرأسمالية (هروب رؤوس الاموال الاجنبية).
يمكن لمرونة أسعار الصرف أن توازن أثر الصدمات الخارجية، وقد يتطلب ذلك التدخل في أسعار الصرف إذا ما أصاب الارتباك أوضاع السوق. وفي أوضاع الأزمات أو شبه الأزمات، يتعين اتخاذ إجراءات مؤقتة تتعلق بتدفقات رؤوس الأموال .
ثالثا: توجيه المؤسسات التنظيمية والرقابية
ينبغي أن تهدف الاجهزة التنظيمية والرقابية إلى حفظ التوازن بين حماية الاستقرار المالي والحفاظ على سلامة الجهاز المصرفي، ودعم النشاط الاقتصادي عبر اعتماد حزمة من الاجراءات منها:
يخلف التأثير الاقتصادي لفيروس كورونا إضعافا لقدرة المقترضين على خدمة ديونهم، وتقليص مكاسب البنوك، مما يؤدي في النهاية إلى الإضرار بسلامة البنوك واستقرارها. وينبغي التصدي لذلك عبر تشجيع البنوك على ممارسة المرونة التي تتيحها القواعد التنظيمية القائمة وإعادة التفاوض بحذر على شروط القروض الممنوحة للمقترضين الواقعين تحت ضغط الدفع. كما ينبغي ألا يتم تخفيف القواعد الموضوعة لتصنيف القروض ورصد مخصصاتها، ويتعين مراعاة أكبر قدر ممكن من الدقة في قياس القروض المتعثرة والخسائر المحتملة.
لتحقيق الالتزام بضوابط السوق، سيكون من المهم مراعاة الشفافية في الإفصاح عن المخاطر والوضوح في إفصاح الأجهزة الرقابية عن توقعاتها بشأن التعامل مع انعكاسات هذه الازمة الصحية. اذ ينبغي أن تعزز الأجهزة الرقابية مراقبة السلامة المالية، وإجراء حوارات أكثر جدية مع الكيانات الخاضعة للتنظيم، وإعطاء أولوية للمناقشات المعنية بالتخطيط لاستمرار العمل وصلابة العمليات.
ضرورة استخدام هامش السيولة الاحتياطية إذا دعت الحاجة لذلك، كما يمكن تطبيق نظام مُعزز لإعداد التقارير الرقابية بهدف مراقبة ضغوط السيولة. وينبغي أن تلجأ البنوك إلى الهوامش الاحتياطية الموجودة لاستيعاب تكاليف إعادة هيكلة الديون، وذلك بالسحب أولاً من هامش حماية رأس المال لاستيعاب الخسائر؛ وينبغي أن تتأكد الأجهزة الرقابية من تعديل توزيعات الأرباح. ويجوز الاستعانة بهوامش رأس المال الاحتياطي المخصصة لمواجهة التقلبات الدورية .
يتعين على السلطات الحكومية ان تتدخل بمزيد من إجراءات الدعم والاسناد، ففي الأزمات السابقة، كان المقترضون الأصغر هم المستهدفون في عمليات تقديم الدعم وتخفيف الضرائب، كما كانت ضمانات القروض وبرامج شراء الأصول لدعم البنوك هي الوسائل الرئيسية المستخدمة، وإن كانت عمليات ضخ رأس المال وضمانات الودائع واسعة النطاق قد استُخدمت أيضا لاستعادة الثقة ووقف الاضطراب الذي أصاب النظام المالي العالمي آنذاك.
الاقتصاد العراقي والازمة المزدوجة
خلف فيروس كورونا والانهيار الحاد في اسعار النفط تداعيات اقتصادية خطيرة طالت معظم الاقتصادات النفطية، والهشة منها على وجه التحديد كالاقتصاد العراقي، الذي يواجه منعطف سياسي خطير نتيجة تفاقم حدة الاحتجاجات الشعبية ضد فساد الطبقة السياسية الحاكمة. وبسبب ضعف البنى التحتية وعدم امتلاك العراق صندوق سيادي لتلطيف حدة تقلبات اسعار النفط، تزداد شدة الاضطراب الاقتصادي المحتمل جراء هذه الصدمة المزدوجة: الصدمة الاولى نتيجة ضعف المؤسسات الصحية ونقص الإمدادات الطبية اللازمة لاحتواء تفشي فيروس كورونا، وتعطل القطاعات الخدمية والانتاجية لاعتبارات صحية، وما يصاحب ذلك من مخاطر اقتصادية واجتماعية تتطلب تخصيصات عاجلة لدعم برامج الحماية الاجتماعية. اما الصدمة الثانية ناجمة عن هبوط اسعار النفط بسبب تراجع الطلب العالمي وتخمة الاسواق، مما يضيف مصاعب كبيرة على قدرة الحكومة في تمويل الرواتب وادامة زخم النشاط الاقتصادي فضلا على توفير تخصيصات مالية طارئة لمكافحة جائحة فيروس كورونا. لذلك على صناع السياسات في العراق، التخلي قليلا عن المكاسب والمغانم الحزبية والفئوية، والعمل بجدية على اختيار حكومة وطنية كفؤة قادرة على اتخاذ اجراءات نوعية (قصيرة الاجل) لاحتواء وتطويق الاثار العكسية لهذه الصدمة المزدوجة وتفادي الانزلاق الى الجزء الحاد من الازمة.