بقلـــم م.د سلطان جاسم النصراوي
كلية الادارة والاقتصاد / جامعة كربلاء
أن يكون النفط نعمة فهو أمر طبيعي كون ان الدولة التي تمتلك مورد طبيعي هي أفضل من حيث فرص التنمية لأنها تمتلك موارد مالية تستطيع بها تحقيق التطور والتقدم والازدهار، بالمقابل ان يكون النفط محنة ونقمة هو أمر واقع ومتحقق (وهناك الكثير من الأدلة والشواهد على ذلك) لأنه كان سبباً لعدم الاستقرار وسبباً لتراجع التنمية وازدهار التخلف ناهيك عن افرازات نشوء أنظمة مستبدة وفاسدة.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 100 عام على اكتشاف النفط في العراق، لا زال الاقتصاد العراقي دالة لتغير أسعار النفط، ولازال الريع النفطي هو المحدد الرئيس للموازنات العامة للبلد. وقد أدى ذلك الى نشوء نظام اقتصادي مشوه مصاب بلعنة الموارد وبتطرف، وقد اضحى البلد يحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الدولة الفاشلة والهشة، وأصبح أكثر توتراً وأسوء حالاً وعانى من حروب داخلية ونزاعات وصراعات وتراجع في مؤشرات التنمية البشرية أدت الى وقوع العراق في فخ التخلف والفقر، وعادةً ما تُعزى هذه المآزق التنموية الى الاعتماد على مصدر واحد فقط للتمويل. وقد واجة الاقتصاد العراقي خلال السبع سنوات الماضية ازمتين مركبتين حادتين انعكست سلباً على مجمل أوضاع الاقتصاد الكلية.
قصة ازمتين
واجه الاقتصاد العراقي منذ منتصف عام 2014 أزمة (صدمة) مزدوجة تمثلت باحتلال تنظيم داعش لمناطق كثيرة من البلاد والانخفاض الحاد بأسعار النفط في الأسواق العالمية. وكان لهذه الأزمة المزدوجة إلى جانب عدم الاستقرار السياسي في العراق آثار سلبية شديدة على الاقتصاد، فتنامت مواطن الضعف والاختلالات الهيكلية، وتراجعت وتيرة الاستهلاك والاستثمار في القطاع الخاص، وتقيَد الإنفاق الحكومي لا سيما على المشروعات الاستثمارية، وتدهورت أوضاع المالية العامة وميزان المعاملات الخارجية، وتفاقمت أوضاع الفقر، واتسع عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري، وبحسب البنك الدولي فإن الآثار المباشرة للاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية ضاعفت من معدلات الفقر في المحافظات التي سيطر عليها داعش لتصل إلى نحو 41.2% في عام 2014، فيما شكل المشردون والنازحون داخليا نصف مليون من فقراء العراق عام 2014، وتشير تقديرات تقييم الاضرار والاحتياجات and Needs Assessment “DNA” Damage الذي وضعه البنك الدولي في عام 2018 والذي أُجري على المحافظات السبعة المتأثرة بشكل مباشر من الصراع الى إن إجمالي الاضرار بلغت نحو 45.7 مليار دولار (أي ما يقارب 53.3 تريليون دينار عراقي) مع نهاية عام 2017، وبلغت الخسائر الحقيقية التراكمية بسبب الصراع مع داعش نحو 107 مليار دولار (تقريباً 124 تريليون دينار) أي ما يعادل 72% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2013 ونحو 142% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي لعام 2013 ايضاً (بافتراض ان الاقتصاد غير النفطي كان سيستمر في النمو نفسة خلال مدة ما قبل الصراع وهو 8%).
لقد أدى الصراع مع تنظيم داعش إلى جانب انخفاض أسعار النفط إلى تراجع وتيرة النمو الاقتصادي في البلد، وانكماش الاقتصاد العراقي بشكل حاد، وازداد العجز في ميزان المدفوعات، وقد أدى تراجع أسعار النفط إلى حدوث نقص في التمويل، وتراجعت قدرة الحكومة على تقديم الخدمات للمواطنين، إلى جانب زيادة معدلات السحب من الاحتياطيات الأجنبية الرسمية للحفاظ على استقرار أسعار الصرف من الصدمات.
وما ان بدأ الاقتصاد العراقي الخروج من الازمة المزدوجة حتى عاد ليواجه ازمة جديدة تمثلت في تفشي فيروس كورونا التي شلت الاقتصاد العالمي واحدثت زلزالا مدمراً بسب توقف النشاط الاقتصاد العالمي نتيجة لإجراءات الحظر، وبعد مرور أربعة أشهر من تفشي فيروس كورونا COVID-19 أصبحت هذه الجائحة مأساة إنسانية حقيقية ضربت وبكل قوة الاقتصاد العالمي بأسره وتسببت بضغوط هائلة على الأنظمة الصحية وعكست اثار اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
ويواجه العراق هذه الازمة وهي يعاني من مشكلات ليس اقلها ضعف الأنظمة الصحية وعدم توفر مستلزمات الطبية الى جانب ضعف أوضاعها الاقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط الى مستويات قياسية، فبالإضافة الى جائحة كورونا، أدى انهيار المفاوضات بين المنتجين من أوبك وخارجها الى انخفاض أسعار النفط ليفقد نحو 60% من قيمته، وحتى بعد ان نجحت أوبك + بالاتفاق بتخفيض الإنتاج وتطبيقه فعليا ابتداءً من 1 أيار لم ترتفع الأسعار الى مستويات ما قبل تفشي الوباء بسبب تخمة المعروض وانخفاض الطلب العالي وحالة عدم اليقين التي يعيشها الاقتصاد العالمي
ان انخفاض أسعار النفط ادى الى ارباك أوضاع المالية العامة في البلد والذي تعد محرك النشاط الاقتصادي، وأصبح تمويل الانفاق العام في البلد يواجه تحديات وصعوبات كبيرة، ووجد الاقتصاد العراقي صعوبة بالغة في تقديم استجابة فعالة على صعيد السياسات المالية لمواجهة ازمة كورونا وانعكاساتها السلبية على المجتمع العراقي. وأدى ذلك الى الكشف عن مواطن ضعف كبيرة في المالية العامة، ستنعكس على اتساع عجز المالية، وعدم القدرة على تحقيق الاستدامة المالية.
تشير توقعات الى ان أسعار النفط سوف تبقى في حدود 30-35 دولار كمتوسط لعام 2020 على أمل ان ترتفع في عام 2021 للتجاوز حاجز الــ 40 دولار. مما يعني استمرار معاناة الاقتصاد العراقي في عام 2020 بسبب انخفاض أسعار النفط وانخفاض الإيرادات المالية.
الدروس المستفادة من اجل الحاضر والمستقبل
مر ويمر الاقتصاد العراقي منذ عام 2003 بمرحلة مخاض عسير ويواجه مخاطر مركبة داخلية وخارجية نتيجة اعتماده على النفط كمورد وحيد للإيرادات. وعلى ما يبدو، ان الحكومات العراقية لم تستفيد من تجارب ودروس الازمات المتعاقبة التي مرت على الاقتصاد العراقي وليس اخرها الازمة المزدوجة (تنظيم داعش الإرهابي وانخفاض أسعار النفط) فلم تتخذ أي اجراء احترازي لوقوع أزمات مستقبلية مماثلة.
وحتى قبل تفشي الجائحة كانت أوضاع الاقتصاد العراقي أضعف بكثير مما كانت عليه قبل عام 2013 بسبب تداعيات الازمة والصدمة المزدوجة (انخفاض أسعار النفط وتنظيم داعش الإرهابي 2015-2018) الى جانب السياسات الاقتصادية الخاطئة في إدارة دفة الاقتصاد العراقي. اذ تحولت الفوائض الذي كان يتمتع بها العراقي قبل عام 2014 الى عجوزات متواصلة باستثناء عام 2018 وصلت المديونية الى مستويات يصعب معها تحقيق الاستدامة المالية.
وتوضح موازنتي 2018 و2019 حجم الاضرار التي لحقت بالاقتصاد نتيجة للسياسات المالية التي رسخت الاعتماد على النفط، وادخلت الاقتصاد في ركود عميق، بسبب ضآلة حجم الموارد المالية المخصصة للإنفاق الاستثماري، فضلاً عن ان موازنة 2019 قد استنزفت فوائض موازنة2018، الى جانب إضافة نحو 0.5 مليون موظف، الامر الذي رفع من الانفاق الحكومي الى نحو 67% في موازنة عام 2020 بالمقارنة مع 57% في موازنة 2010. وفي ظل تفشي وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط يواجه الاقتصاد العراقي ضغوطات هائلة بسبب عدم توفر الموارد المالية لتغطية النفقات الاستهلاكية، وقد أصبح الاقتصاد العراقي على حافة الانهيار، والذي ليس من مصلحة أحد بل سيكون بداية لصراع موارد قاتل يكون الشعب العراقي الخاسر الوحيد فيه.
وفي ظل هذه الأوضاع المتفاقمة، والتقلبات المزمنة والمستمرة في أسعار النفط وانخفاض حجم الموارد المالية فإن الاقتصاد العراقي على مفترق طرق، وإن عملية التنمية الاقتصادية وإعادة بناء ما دمرته الحروب والإرهاب والأزمات تمر بمرحلة صعبة تحتاج إلى إعادة النظر ووضع استراتيجية للنهوض به وإعادته إلى سكة التطور والازدهار الامر الذي يتطلب إحداث تغييرات في السّياسات الكلية وإجراء إصلاحات هيكلية ضرورية لإدامة استمرارية الاقتصاد والمالية العامة للبلد على المدى الطويل، وإرساء الأُسس اللازمة للنمو المستدام.
والسؤال هو؟ ما الذي ينبغي عمله لاحتواء الازمات وإعادة تشكيل وبناء الاقتصاد العراقي؟
ان المرحلة القادمة ينبغي ان تكون مرحلة حاسمة في تاريخ العراق الاقتصادي وهي تتطلب تعاون وثيق وعمل جاد من اجل وضع الاقتصاد العراقي على السكة الصحيحة. وعلى الحكومات القادمة ان تكون واضحة وجريئة في معالجة أوجه الخلل والضعف وان المشكلات الضخمة التي يواجهها الاقتصاد العرقي ينبغي حلها بفكر جديد يختلف تماما عما موجود.
وعليه، نقترح انشاء مجلس اقتصادي (ليس على غرار المجلس الوزاري الاقتصادي الذي تم إنشاؤه مؤخراً) وانما مجلس اقتصادي تخصصي مستقل يكون مرتبط برئاسة الوزراء يتمثل هدفه الأساس وشعاره بأن يكون نفط ليس المورد الوحيد لتمويل الموازنة وانما جزء منها، يكون عمله في اتجاهيين:
الأول: على المدى القصير يتمثل في معالجة اوضاع الاقتصاد الحالية والتخفيف من وقع الصدمة وعبورها بأقل التكاليف.
الثاني: على المدى الطويل وضع خطط استراتيجية طويلة المدى 5-20 سنة للانتقال التدريجي نحو اقتصاد متنوع يقوم على طائفة واسعة من القطاعات لا يشكل المورد النفطي الا جزء لا يتجاوز الــ 40% من إيرادات البلد العامة.