بـقلــــــم أ. م.د سلطان جاسم النصراوي
شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية تطورات متلاحقة في المجالات السياسية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والبيئية والاجتماعية…. الخ، حتى أضحت هذه المجالات تتداخل فيما بينها تداخلاً كبيراً، وكانت لها انعكاسات واضحة على مسرح الاقتصاد العالمي وعلى مستقبل التنمية الاقتصادية المستدامة.
وفي ظل تسارع خطى العولمة واتساعها دخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة، مرحلة تقوم على المعارف والتكنولوجيا والمعرفة العلمية (الاقتصاد المعرفي)، مرحلة تحقق فيه المعارف والتقنيات قيمة مضافة من خلال الابداع والتكنولوجيا، وقد حدث كل ذلك بشكل سريع وكبير جداً.
بيد ان عجلة التطور هذا لم تقف عند هذا الحد، فمع دخول الاقتصاد العالمي القرن الحادي والعشرون دخلت العولمة مرحلة جديدة من التطور لا تقوم على البنية المادية لإنتاج السلع والخدمات، بل تتطلب الامر منظور جديد ومختلف تحتل فيها ثقافة الانسان مكانة متميزة، ذلك لان الإنسان كائن متعدد الثقافات، وتدخل في بناء هذه الثقافات عوامل العقيدة والانتماء الحضاري والتقاليد المجتمعية ….. الخ، هذا التعدد يفرض ذاته ويحتم على المؤسسات الاقتصادية مهما بلغ امتدادها الكوني استحضاره، إذ لا يمكن التعامل مع نمط واحد مع فئة المستهلكين. الامر الذي استدعى إعادة التفكير في استراتيجيات التنمية باستخدام أدوات مفاهيمية وعلمية، تتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة
وفي هذا السياق، بدأ التفكير بالثقافة كونها عنصراً وبعداً جديداً من عناصر وابعاد نجاح الاقتصاد العالمي واستدامتهُ من خلال وضع الثقافة في صميم التنمية المستدامة بوصفها تمثل استثماراً اساسياً وشرط مسبق للنجاح في عصر العولمة، فالثقافة لا تتيح فقط التكيف مع البيئة الاقتصادية فحسب بل تتيح له إمكانية تكييف هذه البيئة وفقاً لحاجاته من السلع والخدمات.
إذ يشجع الاتصال الديناميكي بين الثقافة والاقتصاد في رؤية الثقافة بوصفها مجالاً توفر الفرص وتدعم الاستدامة جنباً الى جنب مع الاقتصاد الأخضر الذي يشمل (البصمة البيئية) والاقتصاد الاجتماعي الذي يشمل (البصمة الاجتماعية) والاقتصاد الارجواني الذي يحمل (البصمة الثقافية).
وفي ضوء ذلك، وفي ظل الترابطات والتشابكات التي خلقتها العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ظهر ما أُطلق على تسميتهُ بالاقتصاد الارجواني (البنفسجي) Purple economic والذي يمثل أحد الفروع الحديثة لعلم الاقتصاد والتي تُعنى بإضفاء الطابع الإنساني على الاقتصاد واستخدام الثقافة كمساعد في ترسيخ ابعاد التنمية المستدامة، أي ترسيخ المسؤولية الاجتماعية التي تستمد جذورها من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1966، والذي ويتميز بطبيعتهُ الشمولية التي تتعدى تثمين السلع والخدمات لكونه مستند على الثقافة النابعة من البعد الإنساني الذي يُبنى على تعدد الثقافات واختلاف التقاليد، والذي يُشجع ويُنمي الاتصال والتعاون في ميدان الثقافة والعلم.
ويتطلب هذا التعدد عدم الاقتصار في التعامل على فئة واحدة من المستهلكين بل استهداف فئات عدة بحسب انتمائها الثقافي لا سيما في ظل العولمة والتطور التكنولوجي الذي أدى الى إزالة الحواجز والقيود.
وتجدر الإشارة الى ان هذا المصطلح ظهر المصطلح لأول مرة في فرنسا عام 2011 في الوثيقة التي تم نشرها في جريدة لوموند Lemonde من قبل المنظمين لأول منتدى للاقتصاد البنفسجي وكان ذلك برعاية اليونسكو والبرلمان والمفوضية الاوربية، ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات والندوات والملتقيات لبحث وتدارس أهمية القضايا المتعلقة بالوعي الثقافي للنهوض بعوامل التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئية.
ان التفاعل الديناميكي بين الثقافة والاقتصاد من خلال دمج المكونات الثقافية في العمليات الانتاجية مؤثراً ومتأثراً بمتغيرات البيئة الثقافية يرفع من كفاءة الاقتصاد من جهة ويثري التنوع الثقافي من جهة أخرى. ومن ثمً فإن التحكم بالبصمة الثقافية يشكل ميزة تنافسية جديدة تُمكن الشركات استغلال هذه الفرصة من خلال الدخول الى الأسواق الجديدة واضفاء الصبغة الثقافية على المنتجات.
إذن هو نموذج عمل جديد للاستدامة يرتكز على أسس ثقافية كونه يحافظ على الموارد الطبيعية والقيم غير المادية التي تسهم في مراعاة جوانب الاستدامة، وهو مختلف عن اقتصاد الثقافة والذي يعتبر قطاع بحد ذاته.
الخلاصة، ان الاقتصاد البنفسجي هو حقل جديد من حقول علم الاقتصاد يستخدم الثقافة كعامل مساعد على ترسيخ ابعاد التنمية المستدامة وهو يعني ان تكون الثقافة هي القوة الناعمة ذات الأثر البالغ في تنمية الاقتصاد وتحقيق أهداف الرفاه والتنمية.
وبالرغم من حداثته فان الاقتصاد البنفسجي لا يزال يحتاج الى المزيد من الدراسات النظرية والتطبيقية العميقة لفهم آليات تأثيره في الاقتصاد ودوره في تحقيق الاستدامة، في ظل مناخ عالمي يتسم بتعدد الثقافات وتنوعها.