رأس المال الوهمي:
ا.د.حمزة محمود شمخي
في مرحلة الشباب كنا منهمكين بقراءة كتاب(راس المال) لكارل ماركس،وكنا نقرأه لغرض القراءة دون ان يكون لمستوى ثقافتنا قدرة في معرفة مضمون الهدف في ما هو مكتوب،اما صعوبة في فهم التحليل والاستنتاج او تجنبا لمناقشة افكاره مع الاخرين.
وبعد مرحلة من النضج الفكري كما اعتقد والاستزادة العلمية في التخصص ،تصفحت كتابي الذي احتفظ به منذ اكثر من خمسون عاما،لازيد قرائتي بتعمق عن (راس المال الوهمي)الذي ورد في كتاب راس المال Capital لماركس.
وبفضول القاريء بدأت التعمق في مفهوم ومضمون راس المال الوهمي Fictitious capital واختلافه عن راس المال الحقيقي Real capital حيث يتناقض المفهومان ويختلفان جذريا عن بعضهمها وفق طرح ماركس وتاكيد منظري الاقتصاد الاخرين.
ويقال عن رأس المال الحقيقي (هو رأس المال المستثمر بالفعل في الوسائل المادية للإنتاج والعمال، ومع رأس المال النقدي ، وهي الأموال المحتفَظ بها بالفعل، تتفاوت القيمة السوقية للأصول الرأسمالية الوهمية (مثل الأسهم والأوراق المالية الاخرى) وفقًا للإيراد أو العائد المتوقع لتلك الأصول في المستقبل، وهو ما شعر به ماركس أنه لا يرتبط إلا بشكل غير مباشر بنمو الإنتاج الحقيقي.
قارن ماركس بين رأس المال الوهمي والحقيقي، وعبر عن المال الوهمي بأنه (قابل للتداول كراس مال بلا قاعدة مادية منتجة ،بمعنى امثر تفسيرا هو ادعاء ورقي بالثروة).
وتفسير ماركس لرأس المال الوهمي يعتبر مفهوم عميق بالدلالة بالرغم من بساطته.فهو يؤكد ان استثمار أي مال بعمليات إنتاج حقيقية يعتبر رأس مال حقيقي،ونقيض ذلك ان اي استثمار للاموال غير مرتبط بعملية إنتاج حقيقية يعد راس مال وهمي، وبسبب هذا التحديد فان (الاموال المستثمرة في الاسواق المالية والشركات المساهمة والتداول تعتبر أموالا وهمية وفق تصوره)وتاكيده.
عمليا يمثل رأس المال الوهمي (المطالبات المتراكمة، وسندات الملكية القانونية، للإنتاج في المستقبل وعلى وجه التحديد المطالبات بالدخل المتولد عن ذلك الإنتاج).
كما يعرف رأس المال الوهمي أيضًا بأنه(مطالبات ورقية بالثروة والقابلة للتداول) ، وبفكر الاقتصاد المالي السائد فإن رأس المال الوهمي هو(صافي القيمة الحالية للتدفقات النقدية المتوقعة في المستقبل).
ان غالبية من كتب عن راس المال الوهمي او ناقشه او فسر مدخله او حلل مضمونه او رفع التناقض عنه، يتناقلون القصة التالية:
في قرية صغيرة.. وفقيرة.. الجميع غارق في الديون، ويعيش على الاقتراض.
فجأةً يأتي رجل سائح غني إلى المدينة و يدخل الفندق ويضع 100 دولار على كاونتر الاستقبال، ويذهب لتفقد الغرف في الطابق العلوي من أجل اختيار غرفة مناسبة.
وهنا يبدأ السرد الوهمي المتسلسلز لهذه القصة:
1- في هذه الأثناء يستغل مالك الفندق الفرصة ويأخذ المائة دولار ويذهب مسرعا للجزار ليدفع دينه.
2- الجزار يفرح بهذه الدولارات ويسرع بها لتاجر الماشية ليدفع باقي مستحقاته عليه.
3- تاجر الماشية بدوره يأخذ المائة دولار ويذهب بها إلى تاجر العلف لتسديد دينه .
4- تاجر العلف يذهب لسائق الشاحنه الذي احضر العلف من بلدة بعيدة لتسديد ما عليه من مستحقات متأخرة
5- سائق الشاحنه يركض مسرعاً لفندق المدينة ،والذي يستاجر منه غرفة بالدين عند حضوره لتسليم العلف ليرتاح من عناء السفر ويعطي لمالك الفندق المائة دولار لتسديد ديونه.
6- مالك الفندق يعود ويضع المائة دولار مرة أخرى مكانها على الكاونتر قبل نزول السائح الثري من جولته التفقدية.
7- ينزل السائح والذي لم يعجبه مستوى الغرف ويقرر أخذ المائة دولار ويرحل عن المدينة !!!
وفق هذا السرد المتسلسل نلاحظ انه لا أحد من سكان المدينة كسب أي شيء إلا انهم سددوا جميع ديونهم .
وفق رؤى الزميل الدكتور مظهر صالح ان (الحكمة والمنطق الذي ضبط ايقاع عملية التسوية الاقتصادية للذمم بين الجميع قد سدد كل منهم ما بذمته لقاء الاستعمال المؤقت لمبلغ المئة دولار في مصفوفة تسويات متقابلة ومتعادلة قيميا وزمنيا والذي عاد في نهاية اليوم الى صاحبه دون كلفة باستثناء استثماره عبر الزمن في ساعات ذلك اليوم) وعلى وفق هذه التسويات ظهر ما يعرف باقتصاديات التبادل؟
والسؤال: هل اثر راس المال الوهمي اقتصاديا؟
ليكون الجواب، وفق الشواهد التاريخية فان راس المال الوهمي اربك الاقتصاد العالمي بانهيارات شواهدها تبدأ من الكساد العالمي عام 1929 وصولا الى ما يعرف بالذعر المالي عام 1938 مرورا بما يسمى بالاثنين الاسود عام1987 ومن ثم ازمة الفقاعة عام 2008 وما بينها من انهيارات جزئية اخرى، مما يعني ان(كتلة رؤوس الأموال الوهمية لم تسلم من الانهيار) مما سببت دخول العالم فترة طويلة في أزمات مالية متتالية ، في حين لم يسجل لراس المال الحقيقي اي اثر في مثل تلك الانهيارات والازمات.
ويشبه البعض ان الازمات المالية التي يخلقها راس المال الوهمي تنطبق عليها (حكايات الأطفال حيث الذهب أو الأموال السحرية سرعان ما تنهار لتصبح غبار لا قيمة له وبشكل عام الثروات غير مستقرة وقد تتلاشى بسرعة كما يتم اكتسابها بسرعة، وهذا ما حصل للمضاربين في الأزمة العالمية عام 2007-2008 حيث كان الضحايا الرئيسيين هم الطبقة العاملة وصغار المستثمرين ممن فقدوا مدخراتهم ووظائفهم وأحيانا حياتهم.
وهنا تاكيد لما أشار اليه ماركس إلى أن الأزمات هي مستوطنة للرأسمالية وتنطوي على مفهوم رأس المال الوهمي وهي مجموعة فرعية من رأس المال المركزي، فالمال لمعظم الناس هو مال فعلي بمعنى المال في البنك هو ضروري للبقاء واستثماره لكسب المزيد من المال)
ومع ذلك،فإن(كتلة رأس المال الوهمي التي تدور في أسواق المال ، وتبادل العقود الآجلة، وما إلى ذلك اليوم هي أكبر بكثير من أي وقت مضى حيث إن 98 ٪ من قيمة المعاملات النقدية في العالم هي المضاربة في الاسواق المالية، بينما 2 ٪ فقط تنطوي على قيم الاستخدام الفعلي)، مما يعكس اهمية الاستثمار المالي كاستثمار حقيقي في نمو اقتصاديات العالم وتطوره ورقيه.