الاقتصاد العالمي والهبوط الناعم
أ.م.د سلطان جاسم النصراوي
شهد الاقتصاد العالمي خلال السنوات الأربع الماضية تحولات واضطرابات متلاحقة بدءً من جائحة كورونا وصولاً الى الحرب الروسية الأوكرانية وما افرزته من تداعيات جيوسياسية وحالة من التشرذم الاقتصادي- الجغرافي الى جانب استمرار تداعيات أزمة المناخ وتفاقمها. وتُشير الإحصاءات الى إن هذه الصدمات المتعاقبة منذ عام 2020 أدت الى انخفاض في الناتج العالمي وصل الى ما يقارب 3.7 ترليون دولار
واتصالاً بهذه التداعيات، شهد النمو الاقتصادي تذبذباً حادً، إذ تراجع في عام 2020 انعكاساً لتداعيات جائحة كرونا وظروف عدم اليقين التي أحاطت بالاقتصاد العالمي، وما إن بدأت معدلات النمو بالتعافي التدريجي عاد الاقتصاد مرة أخرى ليفقد زخمه بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
ويواصل الاقتصاد العالمي تعافيه البطيء (النمو الاقتصادي لا يزال بطيء وغير متوازن) من أثر التداعيات التي فرضتها الجائحة والحرب على الرغم من اضطراب أسواق الطاقة والتضخم وأزمة الامن الغذائي وارتفاع الأسعار السلع.
وبحسب تنبؤات صندوق النقد الدولي من المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي ليصل الى 3% في عام 2023 بالمقارنة مع 3.5% في عام 2022 ومن ثم قد يصل الى نحو 2.9% في عام 2024، مسجلاً تراجعاً ملحوظاً عن المتوسط التاريخي للمدة (2000 – 2019) والبالغ 3.8%. ومن المتوقع تباطؤ النمو في الاقتصادات المتقدمة من 2.6% في عام 2022 إلى 1.5% في عام 2023 ثم 1.4% في عام 2024 مع بدء ظهور بوادر التأثير الموجع لتشديد السياسات النقدية، ويُتوقع أن تسجل اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية انخفاضاً محدوداً في معدلات النمو من 4.1% في عام 2022 إلى 4.0% في عامي 2023 و2024 نتيجة استفحال أزمة القطاع العقاري في الصين([1]).
في حين أشار البنك الدولي الى إنه من المتوقع ان يصل النمو الاقتصادي الى 2.1% و2.3% في عامي 2023 و2024 على التوالي بالمقارنة مع 3% في عام 2022. وكانت توقعات الأمم المتحدة للنمو الاقتصادي تُشير الى وصول النمو الاقتصادي الى 2.4% و2.5% في عامي 2023 و2024.
شكل (1) توقعات المنظمات الدولية للنمو الاقتصادي خلال عامي 2023 و2024
المصدر: صندوق النقد العربي، آفاق الاقتصاد العربي، أبو ظبي، 2023، ص3.
من جانب آخر، أدت الحرب الروسية الأوكرانية الى حدوث صدمة في أسعار السلع الأساسية وأسعار الطاقة وأسعار المواد الغذائية وفقدان الامن الغذائي، لينزلق الاقتصاد العالمي في دوامة التضخم، إذ تٌشير البيانات الى وصول التضخم الى أعلى مستوياته (على مدى عدة عقود) في عام 2022.
وفي هذا السياق، حاولت الدول اتخاذ إجراءات قوية من أجل كباح التضخم من خلال سياسات التشديد النقدي غير المسبوق ورفع أسعار الفائدة الى مستويات قياسية لا سيما في الولايات المتحدة الامريكية، وقد أطلقت بنوك العالم المركزية العنان لسلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة هي الأعلى لها منذ عقود، في إطار سعيها لكبح التضخم العامين الماضيين، فقد رفع صناع السياسات أسعار الفائدة بنحو 400 نقطة أساس في المتوسط في الاقتصادات المتقدمة منذ أواخر 2021، ونحو 650 نقطة أساس في اقتصادات الأسواق الصاعدة، وقد يتعين على البنوك المركزية الرئيسية الاستمرار في تطبيق أسعار فائدة أعلى لمدة أطول([2]). الامر الذي سنعكس على مسيرة النشاط الاقتصادي.
وقد استوعبت معظم الاقتصادات هذا التشديد النقدي العنيف، إذ أثبتت صلابتها على مدار السنة الماضية، وتشير التنبؤات إلى تراجع مطرد في التضخم العالمي من 8.7% في عام 2022 إلى 6.9% في عام 2023 و5.8% في عام 2024 مدعومة بتراجع الأسعار الدولية للسلع الأولية مقارنة بالعام الماضي، وقد ثبت أن التضخم الأساس( بعد استبعاد أسعار الغذاء والطاقة) أكثر جموداً مقارنة بالتضخم الكلي، ويُتوقع انخفاضهُ بوتيرة أكثر تدرجاً، ومن المتوقع أن يصل الى نحو 4.5% في عام 2024، وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي من المؤمل أن يعود التضخم الى مستوياته المستهدفة في عام 2025.
شكل (2) توقعات صندوق النقد الدولي لمعدلات التضخم خلال عامي 2023 و2024
المصدر: صندوق النقد العربي، آفاق الاقتصاد العربي، أبو ظبي، 2023، ص3.
من جانب آخر، اظهر الاقتصاد العالمي بعض أوجه التباعد المهمة ليسجل النشاط الاقتصادي في بعض المناطق تراجعاً كبيراً عن توقعات ما قبل الجائحة، ويبدو التباطؤ أكثر وضوحاً في الاقتصادات المتقدمة مقارنةً باقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ففي مجموعة الاقتصادات المتقدمة تم رفع توقعات النمو للولايات المتحدة في ظل صلابة الاستهلاك والاستثمار، بينما تم تخفيض توقعات النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو. كذلك أثبتت العديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة صلابتها على غير المتوقع، ما عدا الصين التي تمثل استثناءً ملحوظاً بسبب ما تواجهه من تيارات معاكسة متزايدة نتيجة أزمتها العقارية وتراجع مستويات الثقة([3]).
مخطط (1) العوامل المؤثرة في أوجه التباعد بين الاقتصادات
المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى:
- آفاق الاقتصاد العالمي، صندوق النقد الدولي، واشنطن، 2023، ص1-2.
بناءً على ما سبق، يتجه الاقتصاد العالمي نحو تحقيق هبوطاً ناعماً Soft Landing (هبوطاً هادئً)) والذي يفترض تخفيض في معدلات التضخم دون حدوث اضرار كبيرة في مستويات النشاط الاقتصادي.
وتجدر الإشارة الى إن مصطلح الهبوط الناعم قد اشتق من حركة الطائرات عند هبوطها بشكل سلس دون الاضرار بالركاب والحمولات، ويعود الفضل في إبراز مصطلح الهبوط الناعم الى رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي (آلان جريسبان) والذي يُنسب إليه هندسة الهبوط الناعم للاقتصاد الأمريكي خلال المدة 1994-1995. وهو يمثل أقل نتائج التشديد النقدي وطأة وقد يصبح هدفاً للبنك المركزي عند تبنيها دورات التشديد النقدي.
وأخيراً، فمن دواعي الاطمئنان إنه على الرغم من إن الاقتصاد العالمي يعيش في الوقت الراهن نوعاً من التباطؤ في النمو الاقتصادي والنشاط الاقتصادي إلا إنه لم يدخل في مرحلة الركود (هبوطاً ناعماً) وهو ما يعني تقبل هذا النوع من التراجع من أجل السيطرة على معدلات التضخم والعودة بها الى مستويات ما قبل الحرب بأقل ما يمكن من التكاليف.
([1]) آفاق الاقتصاد العالمي، صندوق النقد الدولي، واشنطن، 2023.
(([2] توبياس ادريان، ارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول يضغط على المزيد من المقترضين، صندوق النقد الدولي، 2023، متوفر على الرابط، https://www.imf.org/ar/Blogs/Articles/2023/10/10/higher-for-longer-interest-rate-environment-is-squeezing-more-borrowers
([3]) بيير–أوليفييه غورينشا، الاقتصاد العالمي الصلب يمضي بخطى واهنة مع تزايد التباعد بين المسارات، صندوق النقد الدولي، 2023، متوفر على الرابط، https://www.imf.org/ar/Blogs/Articles/2023/10/10/resilient-global-economy-still-limping-along-with-growing-divergences